توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خمسة فناجين لاتيه

  مصر اليوم -

خمسة فناجين لاتيه

بقلم-د. نيفين مسعد

الغربة شعور غير مريح بشكل عام لكن في هذه المناسبات بالذات تصير وطأة الغربة أشد. هي واحدة من كثيرين طردتهم الحرب من بلدهم ونثرتهم في كل صوب كما ينثرون الملح في المناسبات السعيدة ليبعد عن الأحبة الشر وناسه، لكن في حالة مريم هناك فارقان جوهريان: أن مناسبتها ليست سعيدة وأن الشر لم يبتعد. قبل نحو ست سنوات توزع أفراد أسرة مريم على دولتين عربيتين أما هي فوفدت إلى هنا، كانت تملك من التعليم واللغة وقوة الشخصية ما فتح لها أبوابا لا تُفتَح لسواها بسهولة، لكنها مثل أهلها ظلت تنتمي إلى هناك هذا ال "هناك" الذي لم تطله أبدا منذ غادرته ولا تعرف إن كانت ستبلغه يوما أم لا . تُعنّف نفسها إذ تصف الغربة بأنها هنا والوطن الأم بأنه هناك لكنه الواقع. تغمض عينيها وترى نفسها مع أبويها وأيضا مع أخويها وليد ونچلا في ضيعتهم، يتحلق بشر كثيرون من حولهم.. تتقاذفها الأحضان وتُدوي خفقاتها المتسارعة في صدورهم، تتحول بقدرة قادر إلى فراشة تطير من بيت لآخر من بيوت هؤلاء البشر ومن مائدة لثانية من موائدهم، تطير وتطير ولا تستقر إلا بعد أن تهوي على مقعد الطائرة وصوت المضيفة الرقيق/البغيض يأتيها قائلا: الرجاء من السادة الركاب التأكد من ربط حزام الطائرة. تنظر من الزجاج السميك فتتخيل أن طائرتين أخريين يحدانها من يمين وشمال وكأن هذا السرب الجوي في طريقه لينثر ركابه أو ملحه في مقاصد مختلفة. تلوح في طفولة لنچلا ووليد فلا يريانها لكن إحساسا بالراحة يغشاها لأن فضاء واحدا يجمعها بالكل ثم يعود الفضاء ويفرق الكل لتصحو مريم من غفوتها أو تنتبه من شرودها. تتوقف حينا ثم ما تلبث أن تعيد الكرّة كلما استبد بها الحنين .. وكم هو يستبد .
***
في المدينة الأوروبية التي اغتربت فيها مريم توفرت لها كل الظروف المثالية التي تساعدها على أن تعيش حياة الآلة: درجة الحرارة المناسبة والصيانة الدورية والتشغيل السليم. تستطيع أن تحذف الشروط اللازمة لعمل الآلة بكل طاقتها وتضع مكانها الظروف التي تعيش فيها مريم كإنسانة وستجد أن ليس ثمة فارقا يُذكَر، فالضمان الاجتماعي يرادف الصيانة الدورية للماكينات والتدفئة الجيدة لمكتبها ترادف درجة الحرارة المناسبة للإنتاج واحترام ساعات الراحة وأيام الأجازات يرادف التشغيل السليم.. لطيفة لعبة التباديل والتوافيق هذه .. قالت "الآلة" مريم لنفسها. 
***
أول ما شعرت مريم عنه بغربة في هذه المدينة الأوروبية كان طقسها الذي تتلاقي فيه فصول السنة الأربعة علي مدار اليوم، صحيح أنها واظبت على ارتداء الثياب المناسبة لكل فصل كما يفعل الجميع لكنها مثلهم اضطرت دائما أن تجهز حقيبتها الضخمة بمستلزمات الفصول الثلاثة الأخرى، وهكذا اعتادت أن تدس في حقيبتها الكبيرة سترة واقية من المطر ومروحة مصنوعة من الورق المقوي ونظارة شمس سوداء ودهانات للوجه ضد الحرارة ودهانات أخرى ضد الجفاف. لا يشبه تعاقب فصول السنة على مدار ساعات اليوم الواحد في شيء البيئة التي أتت منها مريم، ففي ضيعتها الصغيرة الصيف صيف والشتاء شتاء، صحيح أن الطبيعة تخرج أحيانا على نواميسها وتتمرد لتمطر في الصيف أو تزمجر في الربيع لكن هذا والحمد لله لا يحدث كثيرا. مثل هذا الاختلاف بين جو هنا وجو هناك صنع منذ البداية حجابا حاجزا أول بينها وبين مهجرها الأوروبي، أما الحجاب الحاجز الثاني والأهم فصنعه الفارق بين علاقاتها الإنسانية خلف باب المؤسسة التي تعمل فيها كمترجمة وبين علاقاتها الإنسانية خارج هذا الباب. هل يحتاج الأمر لبعض التوضيح؟ نعم يحتاج . في أثناء العمل يكون تفاعل مريم مع معظم زملائها على أعلى مستوى ممكن، فهي تتحدث أربع لغات بطلاقة وكثيرا ما يحتاج إليها العمل للتفاهم مع المترددين على المؤسسة ولولاها لتعطلت لغة الكلام. لكن ما أن ينتهي العمل حتى يمضي كلُ في طريق، فلا خروجات تجمعها مع زملائها، ولا دردشة عبر وسائل التواصل ولا تزاور أو اشتراك في مناسبات اجتماعية إلا فيما ندر، يُخَيَل إليها أنه بحلول الساعة الخامسة عصرا يفصل أحدهم التيار الكهربائي ليس فقط عن أجهزة الكومبيوتر لكن أيضا عن علاقات العاملين. هذا لا وجود له أبدا في ضيعتها فالتداخل بين علاقات العمل والقرابة كبير، وباب العمل دوار يُبَدِّل الداخلون منه ثيابهم أما علاقاتهم فلا، هناك يعمل التيار الكهربائي بكفاءة كبيرة على مدار اليوم كله حتى توشك الأجهزة العصبية أن تحترق، آه كم تشتاق مريم . 
***
في المناسبات والأعياد تزيد وطأة الغربة على مريم، يمضي العمل في مؤسستها كالمعتاد وهي أيضا من المفترض أن تعمل، لكن يمكن لها أن تطلب أجازة ليوم أو بضع يوم لتحتفل بالعيد، جيد ألا تذهب للعمل في يوم العيد لكن إلى أين تراها تذهب؟ ليس سهلا أن تتجمع الأسرة في مكان واحد فالآن هم يعملون وليس معروفا إن كان العمل يدوم . في بعض الأعياد تقرر مريم أن تكافئ نفسها بجلسة على هذه الكافيتريا الشهيرة التي تطل على النهر، تختار مائدة تتسع لخمسة أشخاص: هي وأبواها ووليد ونچلا، ترفض بإصرار أن يسحب النادل أيا من المقاعد الأربعة التي لا يجلس عليها أحد مهما ازدحمت الكاڤيتريا، تطلب خمسة فناجين من شراب اللاتيه الذي تحبه أسرتها، ترشف الشراب الساخن بتلذذ وتتأمل حلقات الدخان الأبيض وتتقمص مشاعر الفرح حتي يمر صباح العيد

نقلا عن الشروق

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خمسة فناجين لاتيه خمسة فناجين لاتيه



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt