توقيت القاهرة المحلي 08:24:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تعقيدات أزمة المدرس الفرنسى

  مصر اليوم -

تعقيدات أزمة المدرس الفرنسى

بقلم: عبد الله السناوي

«بروفيسور.. سندافع عن الحرية التى علّمتها جيدا، وسنرفع العلمانية عاليا. لن نتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية والرسومات حتى لو تراجع الآخرون».
كانت تلك عبارة ملغمة للرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» فى حفل تأبين مدرس التاريخ «صامويل باتى»، الذى لقى حتفه مذبوحا على خلفية درس ألقاه عن حرية التعبير مستشهدا بالرسوم المسيئة للنبى الأكرم، التى نشرتها مجلة «شارلى إيبدو».
باليقين فإن قطع رأس المدرس الفرنسى أساء بقسوة إلى سمعة الإسلام والمسلمين، وبدت تداعياته وخيمة على ملايين العرب والمسلمين، الذين يعيشون فى المجتمعات الأوروبية، كما لو كانوا إرهابيين مفترضين.
عندما توالت عمليات الطعن، وبعضها بقطع الرأس، بالقرب من كنيسة «نوتردام» فى مدينة نيس اكتسبت الأزمة طابعا فوضويا وكاشفا بالوقت نفسه لتعقيداتها.
أول التعقيدات، التناقض بين ما هو مشروع وطبيعى من غضب على السخرية الكاريكاتورية باعتبارها عدوانا على مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وبين التفلت بالذبح على أصحاب ديانات أخرى تواجدوا بالمصادفة أمام كنيسة كاثوليكية لأداء الصلاة فيها.
ثانى التعقيدات، التوظيف السياسى الزائد لمقتل المدرس الفرنسى، وقد رمز رجلان من موقعين متناقضين لعمق الأزمة ــ «ماكرون» والرئيس التركى «أردوغان».
كلاهما حاول توظيف الأزمة سياسيا بمقتضى مصالحه ترميما لأوضاعه واستثمارا فى المشاعر العامة حولها.
أفرط «ماكرون» فى مغازلة أطروحات اليمين المتشدد بخطاب شعبوى، حتى لا تسحب من تحت قدميه ما تبقت له من شعبية، دون إدراك لعواقب التصريح بأن بلاده لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية، كأنه استفزاز عمدى للعالم الإسلامى عواقبه لا تحتمل فى فرنسا، التى يكاد يمثل العرب والمسلمون فيها نحو (10%) من مواطنيها.
بعد وقت لم يطل حاول «ماكرون» التخفيف من وطأة حماقة ذلك التصريح بالدعوة إلى التماسك الوطنى شاملا المسلمين.
بقدر آخر حاول «أردوغان» الاستثمار فى مشاعر الغضب الإسلامى، كأنه المتحدث باسمه وزعيمه المعتمد، فيما عينه مصوبة على صراعاته مع الرئيس الفرنسى على غاز شرق المتوسط وحرب النفوذ والمصالح فى مناطق عديدة بالمنطقة أهمها وأخطرها ليبيا.
كما حاولت جماعات إسلامية متشددة توظيف الأزمة لمقتضى صراعاتها الداخلية فى أوطانها، بأكثر من نصرة نبى الإسلام، وبعضها وجد فيها فرصة سانحة للتعبئة والتجنيد وتسويغ العنف والإرهاب.
هكذا أطل على المشهد الفرنسى المحتقن نوع آخر من التوظيف السياسى بين «الشعبوية» و«الإرهاب»، فكلاهما يتغذى على الآخر.
الأحزاب الشعبوية تستفيد من الإرهاب لتبرير العداء للأجانب والمهاجرين والتنكر للقيم الحديثة، وأهمها حريات التفكير والتعبير.
وجماعات الإرهاب تجد فى «الشعبوية» مبررات تضخ عنفا مضادا بالسلاح.
ثالث التعقيدات، ما يجوز أو لا يجوز فى ممارسة حريات الرأى والتعبير، وإذا ما كان ممكنا فى بلد مثل فرنسا وضع خطوط حمراء تمنع التعرض بالسخرية للأديان، أم أن كل شيء مباح ومعرض للنقد.
بالنسبة للفرنسيين فقد دفعت أثمانا باهظة حتى استقرت حريات الفكر والتعبير فى دساتير وقوانين الجمهورية.
سؤال حرية الفكر والتعبير غير قابل للجدل والمساومة والضغوط، ما هو مطروح الآن إذا ما كانت بعض الممارسات باسم حرية التعبير تفضى إلى شيوع خطاب الكراهية ورفع منسوب الشقاق على أساس دينى فى بلد يقوم على العلمانية.
من مصلحة فرنسا أن تعيد النظر فى أية تصرفات وأفعال تدعو إلى الكراهية، كالسخرية الكاريكاتورية من نبى الإسلام، وإلا فإن نوافير الدماء سوف تغرق باريس.
يستلفت الانتباه صغر سن الذين ارتكبوا أعمال التذبيح، فهم ليسوا من الأسماء المعروفة لدى سلطات الأمن، ولا يعرف عنهم أى انتماء إلى جماعات عنف وإرهاب.
كان ذلك تعبيرا عن خطورة اللعب بنيران الكراهية.
كل ما يؤدى إلى الكراهية يجب تجريمه.
القوانين الفرنسية نفسها تجرم معاداة السامية والتشكيك فى الهولوكوست على خلفية الشعور بالذنب، فيما العرب الذين لم يكونوا طرفا فى المحرقة دفعوا الثمن مضاعفا فى فلسطين.
رابع التعقيدات، أن العالم الإسلامى لا يدرك بدرجة كافية حقيقة أزماته، وأنه بحاجة إلى الالتحاق بالعصر صحة وتعليما وتنمية وتقدما علميا وتكنولوجيا، لا فى الفكر الدينى وحده.
نحن نتحدث ــ مثلا ــ عن حرية التعبير فى فرنسا، مقتضياتها وحدودها، فيما الدول الإسلامية، وأولها تركيا التى حاولت أن تستثمر الأزمة، تنكل بها على نطاق واسع.
بعض انتقادات «ماكرون»، قبل حادث مقتل المدرس وبعده، تستدعى التوقف عندها بالحوار والحجة، تحدث باستفاضة عما أسماه «الانعزالية الإسلامية» و«المجتمع الموازى»، وهذه أزمة حقيقية لا مدعاة تعانى منها دول أوروبية عديدة.
هناك آلاف الدراسات الأكاديمية نشرت فى دول الاتحاد الأوروبى، وتابعها بالدرس والتقصى متخصصون فى وزارات الخارجية والدفاع، كما فى أعرق الجامعات.
مشكلتنا ــ هنا ــ أننا لا نعرف كفاية زاوية الرؤية، التى ينظر بها الغرب إلى الجاليات العربية والإسلامية.
سوء الفهم متبادل، نحن نعانى من التهميش والتمييز وأزمات فى الهوية والاندماج، وهم يعانون من الانعزال فيما يشبه المعازل الاجتماعية والتعليمية.
ذلك موضوع حوار جدى فى الملف شبه غائب تحت عباءات حوار الأديان والحضارات.
بعض انتقادات «ماكرون» تخرج عن طبيعة دوره، فليس من شأنه «هيكلة الإسلام»، أو «الحديث عن أنه دين فى أزمة»، فالتجديد فعل اقتناع لا إملاء قوة، وهو مهمة العالم الإسلامى لا غيره.
وخامس التعقيدات، أن أزمة المدرس الفرنسى وتداعياتها تجلٍ جديد لأزمة مزمنة مرشحة لإعادة إنتاجها مرة بعد أخرى.
فى سبتمبر (1988) نشأت احتجاجات هائلة فى العالم الإسلامى إثر نشر رواية «آيات شيطانية» للكاتب البريطانى من أصل هندى «سلمان رشدى»، التى نالت من القرآن الكريم، وصدرت فتاوى أباحت دمه.
وفى سبتمبر (2005) نشرت صحيفة «يو لاندس بوستن» الدنماركية رسوما مسيئة للنبى الأكرم أعقبتها تظاهرات واحتجاجات ومقاطعات لبضائع ومنتجات ذلك البلد الأوروبى، قبل أن ينقضى كل شيء بالصمت.
وفى مطلع (2015) أثارت رواية للكاتب الفرنسى «ميشيل ويلبيك» تساؤلات من نوع مختلف، ماذا قد يحدث لأسلوب الحياة الباريسى إذا ما كان ممكنا أن يصل إلى قصر الإليزيه رئيسا مسلما متشددا.
كان ذلك تعبيرا عن نظرة سلبية شائعة ومخاوف كامنة.
فى سبتمبر من نفس العام نشرت مجلة «شارلى إيبدو» رسوما كاريكاتيرية ساخرة من نبى الإسلام أفضت تداعيات أزمتها إلى هجوم مسلح على مقر الجريدة وارتكاب مجزرة داخلها قبل تعقب المهاجمين والنيل منهم.
أغلق الملف بالدماء دون نقاش حقيقى حول ما جرى، أسبابه وتعقيداته، وعلت من جديد دعوات حوار الحضارات والثقافات والأديان دون الدخول فى صلب الأزمة وتعقيداتها وسبل تجاوزها، حتى انفجرت الأزمة مجددا فى مقتل المدرس الفرنسى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تعقيدات أزمة المدرس الفرنسى تعقيدات أزمة المدرس الفرنسى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 08:21 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 13:35 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء
  مصر اليوم - استمرار استبعاد صلاح من التشكيل يفتح باب الرحيل في الشتاء

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt