توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بين العرب والعالم الحديث: خذلان المثقف العربى

  مصر اليوم -

بين العرب والعالم الحديث خذلان المثقف العربى

بقلم : أحمد عبدربه

أحد أهم الفروق التى تقف بين العالم العربى والعالم الحديث بالإضافة إلى المؤسسات الدينية والثقافة القبلية، هو الجهل. ليس المقصود هنا فقط عدم القراءة والكتابة، وإن كانت الأخيرة مازالت تعوق بالفعل العالم العربى عن اللحاق بالعالم المتقدم بسبب تفشى الأمية وما تستدعيه من عقليات منقادة وسطحية تصدق الخرافات وتتبع الدراويش، ولكن المقصود هنا بالجهل، هو تفاهة وسطحية عقول بعض المتعلمين والمثقفين فى العالم العربى الذين كانوا ومازالوا يخذلون مجتمعاتهم. 
فهناك علاقة طردية واضحة بين سطحية عقل المثقف أو المتعلم وبين قدرته على الترقى الاجتماعى والسياسى والوظيفى فى كل دول المنطقة العربية دون استثناء تقريبا. فالمثقف المستقل صاحب العقل النقدى يثير ريبة السلطة وحفيظة المجتمع. بينما الساذج صاحب العقل المنقاد الطيع غير المتمرد قادر على مغازلة السلطة ومداعبة المجتمع فهو لا يقلق أيا منهما لأنه يقدم فروض الولاء للسلطة المذعورة من التغيير وللمجتمع الغارق فى الأوهام العصبية والقبلية والطائفية عموما. 
فى بلاد النيل العربية قابلت عددا كبيرا من المثقفين السذج (أو ربما ممن يدعون السذاجة)، بحيث إن الدخول فى أى موضوع اجتماعى أو سياسى هو بمثابة إضاعة للوقت من حجم الجهل بالتطورات المعاصرة والغرق فى نظريات المؤامرة فضلا عن كمية من العنصرية والصلف المثيرة للاشمئزاز.
فى بلاد الشام قابلت عددا آخر من المثقفين المتنورين، أصحاب العقل النقدى والشخصية المستقلة لطالما كانت الأحاديث بعيدة عن الموضوعات القومية أو المذهبية، ولكن إذا ما تداعى الحديث ووصل إلى نقطة ما مذهبية كانت أو قومية يتحول الشخص الواقف أمامك إلى النقيض وتسمع كلاما طائفيا لا يصدق ولا يتماشى مع عدد اللغات أو الخلفية الاجتماعية والثقافية لهذا المثقف أو هذه المثقفة!
فى دول الخليج العربى، قابلت ما يمكن أن نسميه بالمثقف القبلى، مجموعة من المثقفين المنفتحين على الغرب، يتحدثون لغة أجنبية واحدة على الأقل، بعضهم يعمل فى أماكن مرموقة توفر له الاستقرار والعيش الكريم، ولكن مواقفهم العامة هى مواقف قبلية بامتياز لا تدافع سوى عن القبيلة ومواردها، خطبها العامة والخاصة ليست سوى تمثيل لمواقف شيخ القبيلة (الحاكم السياسى) فمواقف الأخير السياسية والمذهبية هى نفسها مواقف عدد كبير من هؤلاء!
ربما أفضل مثقفين قابلتهم من حيث الاتساق مع النفس ومحاولة قيادة مشروعات ثقافية حقيقية ومستقلة (بقدر الإمكان)، هم مثقفو دول الشمال الإفريقى. وجدتهم الأكثر تعليما وانفتاحا وتوازنا والأقل جهلا وعصبية وقبلية وطائفية. مواقف الكثير من هؤلاء متوازنة ومتسقة كثيرا وخصوصا فى مواجهة الموضوعات الشائكة الدينية والاجتماعية والسياسية. ربما فقط تقف ثقافتهم الفرانكفونية حائلا بعض الشىء عن التواصل مع باقى أقرانهم فى المحيط العربى، ولكن لا بأس فربما كان هذا لصالحهم ولصالح مجتمعاتهم.
***
خذلان المثقف للمجتمع ليس قاصرا على المنطقة العربية، ولا هى ظاهرة جديدة فى تجارب الدول والمجتمعات، ولكن خصوصية المنطقة العربية هى استمرار هذا الخذلان وخفوت فرص النهضة أو التغيير.
الحقيقة أن هناك ثلاثة أنواع من الخذلان الذى يصدره المثقف لمجتمعه، وهنا يمكن إجمال بعض هذه الأنواع:
النوع الأول: خذلان التآمر، ظاهرة تآمر المثقف ضد مجتمعه ظاهرة معروفة فى المجتمعات الحديثة وكتابات إدوارد سعيد وغيره تتناول هذه الظاهرة بالكثير من التحليل والرصد. يخذل المثقف مجتمعه حينما يقرر أن يتحول إلى ترزى للسلطة، يستخدم علمه وبلاغته وأدواته البحثية وتقديره من المجتمع للحفاظ على موقعه القريب من السلطة ومن أجل تمرير وتبرير خطاب الأخيرة.
العالم العربى ملىء بهذا النوع من المثقفين، أكاديميين وقادة فكر ورأى معظمهم من أسر تنتمى إلى عامة الشعب تخذل مجتمعها مع سبق الإصرار والترصد عن طريق التآمر على وعيهم واستغلال بعض الجهل أو عدم المعرفة لتعضيد مواقف السلطة والسيطرة على عقول الشعوب العربية. هذا النوع من المثقفين العرب له عادة ثلاثة أوجه، وجه يظهر فى المحافل الخاصة يتحدث بصراحة عن حقيقة الأوضاع العربية البائسة، بل وقد يطال نقد لاذع للحكومات والحكام، ووجه آخر عام يظهر فى المحافل واللقاءات العامة ليتحدث عن جهل الشعوب العربية وطائفيتها وعنصريتها كمبرر لغياب التغير والإصلاح السياسى، هذا الوجه يدافع أيضا عن السلطة وعن قراراتها ويحمل المجتمع دائما المسئولية عن التراجعات والإخفاقات. 
النوع الثانى: خذلان الجهل، والمقصود هنا أن المثقف يقف فى مربع الجهل بأشكال مختلفة، فهو إما متخصص فى مجال معين ولكنه يفتى فى مجالات أخرى بغير علم فيسىء لنفسه ويسىء لعلمه وبالقطع لمجتمعه، أو هو مثقف السوق أو مثقف الوراثة، أى إنه بالفعل لا يملك حدا أدنى من العلم حتى فى المجال الذى يدعى التخصص فيه ولكن تم تسويقه بواسطة جهة ما أو ورث وظيفة المثقف عن والده أو أجداده وأصبح حديث مجتمعه وقائد فكر ورأى وهمى يقف على قمة جبل الجهل والسذاجة والسطحية بفعل أدوات التسويق والتلميع والأضواء أو الوراثة.
النوع الثانى هذا أكثر انتشارا فى المنطقة العربية، قابلت وعرفت الكثير من المثقفين الذين تم تسويقهم جيدا أو ببساطة تمكنوا من تبوؤ هذه المكانة عن طريق الانتماء لعائلات أو قبائل وأسر بعينها، ولعل الحالة المصرية فى هذا السياق دالة على حقيقة أوضاع المثقفين البائسة فى العالم العربى. كم الكتاب والمثقفين ونجوم المجتمع الذين يبوأون هذه المكانة فقط لأن أحد آباءهم كان من نجوم المهنة لا يعد ولا يحصى، قليل منهم هو بالفعل الذى تمكن من الوصول إلى هذه المكانة بفعل موهبته والكثير فعلها فقط بسبب وراثته!
النوع الثالث: خذلان الخوف، فالمثقف هنا يخزل مجتمعه لأنه خائف من السلطة، ولما كانت معظم الدول العربية تحكمها نظم لا تسمح إلا بهامش ضئيل من الحرية والأمان (هذا إن سمحت أصلا)، فبعض المثقفين العرب يمارسون دورهم وهم خائفون وغير آمنين على أوضاعهم ولا حتى على أسرهم. هذه الأوضاع مفهومة فى الدول الأقل ديموقراطية، ولكن كيف يتصرف المثقف الخائف؟ هذه هى المعضلة، الخوف لا يبرر الانبطاح ولا التماهى مع السلطة، إن خفت اسكت، ومعظم الفنانين والرياضيين والمثقفين والأكاديميين وقادة الفكر والرأى ونجوم المجتمع الذين يبررون مواقفهم العامة المخزية لأصدقائهم فى جلساتهم الخاصة بأنهم مجبرون، كاذبون وهم يعلمون أنهم يكذبون، نعم يمكنك اختيار ألا تتحدث أو تعلن موقفا عاما لأنك خائف، لكن من غير المقبول إعلان مواقف عامة منبطحة ويتم تبريرها بتلقى التهديدات! أنت هنا أكثر بؤسا وانحرافا مما يتصور البعض لأنك فى الواقع تتاجر بسلطوية الدولة لتبرير مواقفك الانتهازية ببساطة!
فى دول كثيرة سبقتنا إلى التقدم والحداثة لم يكن السبيل للقضاء على أمثال هؤلاء المتخاذلين سوى فى بناء جيل جديد أكثر وعيا ودراية وأكثر اتساقا مع المبادئ وأكثر تعلما وانفتاحا وتصالحا مع الحداثة مع درجات أقل من الانتهازية والوصولية وهو الأمر الذى مازال ممكنا فى المنطقة العربية ونتمناه أن يكون أقرب مما نتصور.

نقلا عن الشروق

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين العرب والعالم الحديث خذلان المثقف العربى بين العرب والعالم الحديث خذلان المثقف العربى



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt