توقيت القاهرة المحلي 03:39:18 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

  مصر اليوم -

من الساحل إلى الأطلسي طريق التنمية من أجل الاستقرار

بقلم: لحسن حداد

إنّ ما تشهده منطقة الساحل ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة متوقّعة لتفوّق النمو الديموغرافي على النمو الاقتصادي، وللحدود التي تُقيّد الإنسان الأفريقي في الساحل وتحول دون فتح الآفاق أمامه، ولنظام اقتصادي ما زال يقوم على الهشاشة. طوال عقود، ظلّ النقاش يدور في حلقة مفرغة بين الأمن والتنمية، لكنّ الخروج من هذه الحلقة لا يكون إلا عبر الاندماج؛ أي ربط اقتصادات الساحل الداخلية بسلاسل القيمة العالمية من خلال البنية التحتية والطاقة والحكامة التي تخدم الإنسان قبل الدولة وتقوم على رؤية واقعية تُعيد الاعتبار إلى الإنسان كفاعل في التنمية لا مجرد متلقٍّ لثمارها، رؤية تجعل من العدالة المجالية شرطاً للاستقرار والأمن المشترك.

في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، يتضاعف عدد السكان كل عقدين تقريباً فيما تتقلص الأراضي الزراعية بفعل التغيّرات المناخية. انعدام الأمن والتطرف والهجرة غير النظامية ليست أزمات منفصلة، بل تجليات لأزمة واحدة: عجز الحكومات المتوالية عن توفير سبل العيش بسرعة كافية لتلبية حاجات شعوبها المتزايدة. هكذا ينجذب شبابٌ بلا أفق إلى شبكات التهريب أو الجماعات المسلحة، بينما تتكدس أسرٌ مشرّدة بفعل الجفاف أو العنف في مدن عاجزة عن استيعابها. ما لم تتحرّك التنمية بوتيرة أسرع من اليأس، فسيواصل العقد الاجتماعي في الساحل طريقه إلى الانهيار.

تُعيد المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس سنة 2023 رسم الجغرافيا الاستراتيجية للساحل. فهي تقترح ممرّاً اقتصادياً حديثاً يربط مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد مباشرة بالمحيط الأطلسي عبر الموانئ المغربية، ولا سيّما ميناء الداخلة الأطلسي الذي هو قيد الإنجاز. وبدعم من شبكات للطرق والسكك والطاقة عبر الصحراء، تهدف المبادرة إلى تحويل هذه الدول من منغلقة برياً إلى مرتبطة بالعالم.

ليست هذه المبادرة مجرّد شعار دبلوماسي، بل هي ثورة تنموية. فهي قادرة على خفض تكاليف النقل، وتنشيط الصادرات، وجذب الاستثمارات في مجالات اللوجستيك والتصنيع والتحويل الزراعي، وخلق مئات آلاف فرص العمل على طول الممر. إنّها تمنح دول الساحل المنطق نفسه الذي صعدت به شرق آسيا: ربط الداخل بالموانئ، والعمال بالأسواق، والشباب بفرص الإنتاج. إنها أيضاً مبادرة تترجم الثقة المتبادلة بين المغرب وشركائه الأفارقة، وتُجسّد تحول أفريقيا من مجال لتلقي المساعدات إلى فضاءٍ لإبداع الحلول بنفسها. لكنّ البنية التحتية المادية وحدها لا تكفي. فنجاح الممر يقتضي أيضاً بنية مؤسساتية ناعمة: توحيد الأنظمة الجمركية، وتسهيل الاستثمارات العابرة للحدود، وإنشاء صندوق إقليمي لصيانة الطرق وتأمينها. هنا تبرز خبرة المغرب واستقراره وموقعه الأطلسي كمرتكز عملي لمقاربة أفريقية خالصة لمشكلات أفريقية.

إنّ استقرار الساحل لا يتحقق بزيادة الجنود، بل بزيادة المعلّمين والمزارعين والمهندسين. الأولوية الأولى لرأس المال البشري: تعميم التعليم الثانوي الأدنى للفتيات، وضمان خدمات الصحة الإنجابية، وتوسيع شبكات الحماية الاجتماعية القادرة على امتصاص الصدمات. فكل سنة إضافية من تعليم الفتاة تؤخر الزواج، وتخفض معدلات الخصوبة، وترفع دخل الأسرة؛ أي أنها تخفف مباشرة من الضغوط الديموغرافية التي تغذّي التطرف والهجرة.

ثم تأتي الإدماجات الإنتاجية: تطوير الزراعة المقاوِمة للمناخ، ودعم الريّ الشمسي، وبناء سلاسل القيمة متينة للحوم والألبان، وكذا دعم التصنيع المحلي للمواد الأساسية. ومع الوصول إلى الموانئ الأطلسية، يمكن لهذه القطاعات أن تجعل من الساحل منطقة إنتاج لا منطقة عبور.

أما الطاقة فهي الركيزة الثالثة. ينبغي التركيز على الشبكات الصغيرة المولّدة للكهرباء لأغراض إنتاجية؛ لتبريد الأسماك، وطحن الحبوب، ولحام المعادن. فالكهرباء الميسّرة هي في الوقت ذاته سياسة تشغيل وسياسة أمن.

ينتعش التطرف والجريمة المنظمة حيث تغيب الدولة ويزدهر التهريب. لذلك، فإنّ إنشاء نقاط حدودية مدمجة وتبادل البيانات بين الجمارك ووحدات الاستخبارات المالية وشركات الاتصالات، إلى جانب توفير بدائل معيشية للمهرّبين الصغار، من شأنه أن يقطع شريان التمويل عن الجماعات المسلحة. ويمكن أن يصبح الممر الأطلسي عموداً فقرياً للحكامة، يحوّل التجارة من اقتصاد الظل إلى الاقتصاد المنظم.

لا يقيس الناس الدولة ببياناتها، بل بخدماتها. عندما تصل المياه، وتُدْفَعُ الرواتب في وقتها، وتُؤمّن الأسواق، تبدأ الثقة بالعودة. ولهذا يجب تأسيس عقود محلية للمساءلة تُناقش فيها الأولويات علناً بين المنتخبين والمواطنين. فالمساءلة من القاعدة إلى القمّة هي اللقاح الأقوى ضد الانقلابات واليأس.

إنّ المبادرة الأطلسية تمنح الساحل أفقاً يتجاوز المساعدات والخوف. فهي تمثّل منطق الاندماج بدل الانعزال، والإنتاج بدل التبعية. ربط الساحل بالمحيط الأطلسي ليس مشروع بنية تحتية فحسب، بل هندسة جيوسياسية للأمل. وإذا توحّد الشركاء حول هذا التصور - بالاستثمار في الإنسان والممرّات والحكامة معاً - يمكن لمنطقة الساحل أن تنتقل من حالة الطوارئ الدائمة إلى زمن النهوض المستدام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من الساحل إلى الأطلسي طريق التنمية من أجل الاستقرار من الساحل إلى الأطلسي طريق التنمية من أجل الاستقرار



GMT 20:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 11:05 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 11:03 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 10:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 10:51 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 10:48 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 10:27 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

من «ضد السينما» إلى «البحر الأحمر»!!

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت ـ مصر اليوم
  مصر اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 20:14 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر
  مصر اليوم - ماكرون يعرب عن قلق بالغ بعد إدانة صحافي فرنسي في الجزائر

GMT 05:43 2025 الإثنين ,01 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 01 ديسمبر/ كانون الأول 2025

GMT 01:38 2025 السبت ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو يتسلم المفتاح الذهبي للبيت الأبيض من ترامب

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 07:30 2025 الخميس ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية مدهشة لعام 2026 ستعيد تعريف متعتك بالسفر

GMT 10:52 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كل ما تريد معرفته عن قرعة دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا

GMT 11:36 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

عبد الحفيظ يكشف انتهاء العلاقة بين متعب والأهلي

GMT 22:15 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الرياضة يكرم بطل كمال الأجسام بيج رامي الإثنين

GMT 18:12 2020 الخميس ,15 تشرين الأول / أكتوبر

الشرطة المصرية تستعرض قوتها أمام الرئيس السيسي

GMT 22:53 2020 السبت ,25 إبريل / نيسان

إطلالات جيجي حديد في التنورة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday egypttoday egypttoday
egypttoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh Beirut- Lebanon
egypt, egypt, egypt