توقيت القاهرة المحلي 13:01:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

إسبانيا والمغرب... سلطة الجغرافيا وقَدر التاريخ

  مصر اليوم -

إسبانيا والمغرب سلطة الجغرافيا وقَدر التاريخ

بقلم - لحسن حداد

من يقرأ تاريخ العلاقات بين المغرب وإسبانيا، لمدة ثلاثة عشر قرناً على الأقل، ينبهر أمام متن هائل من الأحداث والمعارك والحروب والفتوحات والغزوات والاستعمار والتحرر والتداخل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. علاقة معقدة، متشعبة، مُسيَّرة بقدَر الجغرافيا والتاريخ، والحاضر المشترك، وحتماً المستقبل الذي تحكمه ضرورة التعايش والتساكن في فضاء مترامي الأطراف يعتبَر من أكثر المناطق حساسية من الناحية الجيو-استراتيجية.

في خطابه الشهير أمام مجلس الشيوخ الكندي يوم 17 مايو (أيار) 1961 قال جون فيتزجيرالد كينيدي مُخاطباً الكنديين «لقد حتَّمت علينا الجغرافيا أن نكون جيراناً؛ وأرادنا التاريخ أصدقاء؛ وأصبحنا بحكم الاقتصاد شركاء؛ وشاءت الضرورة أن نصير حلفاء. من جمعتهم الطبيعة هكذا، لا يمكن لأي كان أن يُفَرِّق بينهم». هذه المقولة تنطبق تماماً على المغرب وإسبانيا لأنه كما قال أبراهام فيرجيزي، الكاتب والطبيب الأميركي من جامعة ستانفورد «الجغرافيا هي قَدَرُ الشعوب». وقدَر إسبانيا والمغرب أن يتقاسما ليس فقط تاريخاً طويلاً وحافلاً من الأخذ والرد والكرِّ والفرّْ، ولكن حدود على بحرين وإطلالة مشتركة على مضيق جبل طارق، أهم المناطق البحرية في العالم التي تعرف نشاطاً لا يكل من التجارة والملاحة.

ما يميز العلاقة بين المغرب وإسبانيا هو أن عامل الزمن (أي صيرورة التاريخ) حين ينضاف إلى الجغرافيا يخلق قَدَراً (كما يقول الشاعر الروسي جوزيف برودسكي)، ذا أبعاد تكتونية تهم ما يسميه فيرناند بروديل، مؤسس مدرسة الحوليات الفرنسية في التاريخ، بـ«الحقبة الطويلة» أي الزمن الذي يتجاوز الأجيال نحو مصير الأمم على المدى التاريخي الطويل. إذا كان التاريخ بمعناه الهيغلي هو صيرورة وحركة ذكية نحو وضع أو شرط جديد، ألا وهو «الحرية الإنسانية» («دروس في فلسفة التاريخ» 1837)، فإن قوة الجغرافيا هي في إعطاء بعد ايكولوجي وثقافي وسياسي للقرب والامتداد الجيو-استراتيجي.

يمكن اعتبار انعتاق إسبانيا من قبضة الفاشية بعد موت الجنرال فرانسيسكو فرانكو عام 1975 وتحرير المغرب من تسلط القوى الاستعمارية من 1956 إلى 1975، وذلك بعد قرون من التجاذب والتطاحن والحروب والغزوات والفتوحات وغيرها فيما بينهما، على أنه نقطة فاصلة في تاريخ البلدين وفي تاريخ علاقاتهما. دخول البلدين زمن الحرية في الفترة نفسها عجّل باستغلال قَدَر الجغرافيا للمرور إلى عصر التعاون والتشارك.

يتطور التاريخ حسب «لحظات مؤسسة» و«لحظات متفرعة»، وهذا يعني أن زخماً معيناً يتكون في زمن معين، بعضه متحكم فيه من طرف الفاعلين والبعض الآخر هو صيرورة حتمية بالمعنى الخلدوني للأشياء، يخلق تحولاً بنيوياً له أبعاد حاسمة في قلب الأشياء رأساً على عقب. هذا التحول في العلاقات وقع في فترة الانعتاق هذه، والتي كانت فاصلة في تاريخ البلدين وفاصلة في تاريخ علاقاتهما.

على مر أربعين سنة تطورت العلاقات لتصبح إسبانيا أول شريك تجاري للمغرب على الإطلاق (متقدمة على فرنسا التي تبقى أول شريك اقتصادي للمغرب)، ويصبح المغرب أول شريك تجاري لإسبانيا في أفريقيا، ويبلغ رقم المعاملات بين البلدين 16 مليار يورو، ويبلغ عدد الشركات الإسبانية العاملة في المغرب أكثر من ألف شركة، ولتصل قيمة السياحة المغربية في إسبانيا نحو مليار يورو، والسياحة الإسبانية في المغرب نحو مليار ومائتي مليون يورو ؛ بينما تُدِرُّ عملية عبور نحو ثلاثة ملايين مغربي مقيمين في الخارج الأراضي الإسبانية للدخول إلى المغرب في فصل الصيف نحو مليار يورو على الاقتصاد الإسباني، ناهيك من نحو سبعمائة ألف مغربي مقيمين في إسبانيا، يساهمون في بناء الاقتصاد الإسباني، ويحولون قسطاً لا بأس به من مداخيلهم لذويهم في المغرب.

الربط الجوي والبحري يشغل الآلاف من الطرفين، ويساهم في حركة التنقل الدائم بين البلدين براً وجواً وبحراً.

على المستوى الأمني، تم تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابية في إسبانيا والمغرب، نتيجة التعاون المثالي بين الأجهزة الأمنية في البلدين؛ تبادل المعلومات والعمليات المشتركة والتعاون مع المصالح الأمنية للدول الأوروبية والأميركية والعربية والأفريقية صار نموذجاً يُحتذى، في ميدان محاربة الإرهاب والتطرف والجريمة المنظمة والجريمة العابرة للحدود. بينما بلغ عدد محاولات الهجرة التي أوقفتها الأجهزة الأمنية المغربية عشرات الآلاف.

إن الانفلاتات التي تقع في ميدان الهجرة هنا وهناك، يجب ألا تحجب الجهود التي يقوم بها المغرب، والتي تكلفه سنوياً نحو نصف مليار يورو لحماية حدوده وحدود الاتحاد الأوروبي من الهجرة السرية.

وإذا أضيفت إلى هذا التعاون الثقافي والجامعي والعلاقات العائلية والزيجات المختلطة وغيرها، تجد أن إسبانيا والمغرب تربطهما ألف علاقة وعلاقة منسوجة بشكل معقد من الصعب تتبع كل خيوطه وتحليل حيثياته وضبط تمَثُّلاتِه.

نعم، هناك من يريد نسج خيوط حكي آخر، سرد من نوع مخالف وبديل. إنهم البوديموس واليسار المتطرف المساند للأطروحة الانفصالية لجبهة البوليساريو وبعض الصحافيين المتياسرين. هؤلاء ما زالوا يلومون المغرب على انتصار محمد بن عبد الكريم الخطابي في معركة أنوال في صيف 1921، ويعتبرون المغاربة الذين شاركوا مع فرانكو في حربه ضد الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939) تواطؤاً مغربياً مع الفاشية، ويرون في المسيرة الخضراء (1975) ابتزازاً مغربياً لإسبانيا في مرحلة احتضار فرانكو أدت إلى انتزاع الصحراء من إسبانيا في وقت ضعف سياسي ودستوري. لكل هذا، وجب حسب زعمهم، دعم جبهة البوليساريو وإضعاف المغرب ودعم خلق استمرار توتر دائم مع بلد الموروس، المتخلف واللاديمقراطي أساساً!

كان لإعلان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانتشيز أن المقترح المغربي حول الحكم الذاتي، هو الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية، من أجل تسوية نزاع الصحراء، ضربة قاسية لهذا الحكي. لهذا؛ كان الرد عنيفاً من المعارضين للتقارب المغربي - الإسباني. إنهم يرون في واقعية الموقف الإسباني إضعافاً لأطروحاتهم، خصوصاً أنهم كانوا يراهنون على استمرار التوتر بين البلدين؛ لأن هذا التوتر سيُقرِّب إسبانيا من الجزائر ويُعجِّل بحلم دولة مستقلة في الصحراء المغربية.

بيد أن الدولة الإسبانية بمكوناتها السياسية التقليدية وأجهزتها الأمنية والعسكرية والطبقة الاقتصادية والحكومات المحلية، ترى في إعادة الحيوية للعلاقات الاستراتيجية ليس فقط استثماراً في المستقبل، وفي أمن أوروبا، وفي ازدهار سبتة ومليلية (المدينتين المغربيتين المحتلتين) وجزر الكناري والأندلس وغيرها، إلا أنه وفاءً لقدَر التاريخ وسلطة الجغرافيا في تجسيد الحلم الإسباني – المغربي، في خلق فضاء ممتد الأطراف للتكامل الاقتصادي والتعاون الأمني والتنمية المشتركة للمجالات البحرية والخيرات الطبيعية للبلدين، انتصر العقل وانتصر حلم الشعبين في الازدهار والنمو المستديم في فضاء واعد ورحب وخالق للأمن والاستقرار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إسبانيا والمغرب سلطة الجغرافيا وقَدر التاريخ إسبانيا والمغرب سلطة الجغرافيا وقَدر التاريخ



GMT 01:22 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

طهران ــ بيونغيانغ والنموذج المُحتمل

GMT 01:11 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

ماذا نريد؟

GMT 01:07 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

أكذوبة النموذج الإسرائيلي!

GMT 23:18 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

تنظيم العمل الصحفي للجنائز.. كيف؟

GMT 23:16 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأهلي في أحلام الفيفا الكبيرة..!

GMT 01:52 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة
  مصر اليوم - منى واصف تكشف عن أمنيتها بعد الوفاة

GMT 09:00 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أمامك فرص مهنية جديدة غير معلنة

GMT 09:36 2021 الإثنين ,20 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم الإثنين 20/9/2021 برج الدلو

GMT 13:21 2019 الأحد ,29 أيلول / سبتمبر

كيف ساعدت رباعية الاهلي في كانو رينيه فايلر ؟

GMT 03:35 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الكركم المهمة لعلاج الالتهابات وقرحة المعدة

GMT 02:36 2019 الأحد ,30 حزيران / يونيو

فعاليات مميزة لهيئة الرياضة في موسم جدة

GMT 04:38 2020 الثلاثاء ,25 شباط / فبراير

نجل أبو تريكة يسجل هدفا رائعا

GMT 12:42 2018 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ديكورات جبس حديثه تضفي الفخامة على منزلك

GMT 12:14 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

مجموعة Boutique Christina الجديدة لموسم شتاء 2018

GMT 11:46 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

الذرة المشوية تسلية وصحة حلوة اعرف فوائدها على صحتك

GMT 09:42 2020 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

إليك 4 مخاطر للنوم بعد تناول الطعام مباشرة عليك معرفتها

GMT 21:11 2019 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

بدرية طلبة على سرير المرض قبل مشاركتها في موسم الرياض
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon