توقيت القاهرة المحلي 16:55:13 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يبكون ضحاياهم، لا ضحايانا

  مصر اليوم -

يبكون ضحاياهم، لا ضحايانا

بقلم حازم صاغية

شاع في الآونة الأخيرة نقد عربيّ للغربيّين، الأوروبيّين منهم والأميركيّين، مفاده التالي: إنّهم يبكون على ضحاياهم الذين أودى بهم الإرهاب لكنّهم لا يبكون على ضحايانا، علماً أنّ الأخيرين أضعاف الأوّلين عدداً.

والنقد هذا، الذي تنقله وسائط التواصل الاجتماعيّ ورسائل القرّاء في الصحف والمواقع، ليس جديداً. فكثيراً ما أُخذ على الحكومات الغربيّة اكتراثها بأفراد من بلدانها يُقتلون أو يُخطفون في بلداننا، فيما لا تبذل تلك الحكومات الاهتمام ذاته حين يتعرّض أفراد عرب أو مسلمون لانتهاكات قتل أو خطف.

مع هذا فالجديد اليوم هو مدّ النقد من الحكومات التي أدمنّا على هجائها إلى الشعوب التي هي أيضاً «عنصريّة» ومعادية «لنا»، بما فيها وسائل إعلامها التي تغطّي أخبار بلدانها أكثر ممّا تغطّي أخبار بلداننا.

أغلب الظنّ أنّ هذا التصعيد النقديّ، بل الهجائيّ، وليد انكشافنا على نحو مؤلم: فنحن نعيش حروبنا الأهليّة المفتوحة، وتنزح أعداد هيوليّة من أبناء جلدتنا إلى الغرب، وتتصدّع مجتمعاتنا ودولنا، فيما نطالب هذا الغرب إيّاه باستقبال نازحينا وبالتدخّل لوقف حروبنا أو لتخليصنا من مُستبدّينا. وفي موازاة انكشاف كهذا، لا بدّ من الدفاع عن النفس المتداعية بردّ تداعيها إلى آخرين، خصوصاً ذاك الآخر الذي ننكشف حياله، فتغدو إدانته وتحميله المسؤوليّات شرطاً لتماسكنا النفسيّ واستمرارنا الوجوديّ.

غنيّ عن القول إنّ الحسّ الإنسانيّ المؤمثل، أي العابر للروابط النسبيّة، قرابةً ومواطنيّةً وشراكة في الأرض أو في اللغة والثقافة، لا يميّز بين إنسان وآخر وبين ضحيّة وضحيّة. وهذا الحسّ هو ما تتّجه إليه البشريّة في لحظات صحّيّتها وتعافيها، حيث تنكمش القوى القوميّة والدينيّة والعنصريّة لتنكفىء إلى هامش ضيّق.

لكنْ لماذا يُفترض أنّ هذا التعالي لا يوجد إلاّ في الغربيّ الذي نطالبه وحده من دون سواه بأن يتعدّى الروابط النسبيّة تلك؟ ولماذا يُفترض بالصحيفة الغربيّة وحدها أن تغطّي أخبار لبنان وباكستان وأوغندا كما تغطّي أخبار بلدها، غير عابئة بجمهور قرّائها وهمومهم المباشرة؟ أوليس في ذلك إقرار ضمنيّ منّا بتفوّق عابر للنسبيّة يُفترض أنّه من مواصفات الغربيّ؟ ذاك أنّ الأخير، تبعاً لهذا النقد، هو وحده العالميّ، الذي يُحاسَب ويُقاس بناء على عالميّته المفترضة هذه. هكذا يُرسم كائن يحبّ العالم، أو يُحاسَب على أساس حبّه للعالم، أكثر ممّا يحبّ قريبه وجاره وابن وطنه والمتحدّث بلغته إلخ.

وأيضاً، وما دام العالم مقسوماً إلى دول وشعوب، يصعب النظر إلى ذاك التعاطي مع الغربيّ، حتّى لو اتّخذ شكل النقد أو الهجاء، إلاّ بوصفه دليل استصغار لأنفسنا ولما يمكن توقّعه منّا. فلماذا لا يقال، مثلاً، إنّنا لا نبكي أوروبيّين يُقتلون، ولا تغطّي صحفنا أخبار العالم، وحين يسقط واحد من ضحايانا نسارع إلى تسييس موته بما يخفّف وقعه الإنسانيّ، وعندما نبادل العشرات منّا، بل المئات، بجنديّ إسرائيليّ، وأحياناً بجثّة إسرائيليّة، نكون قد «سعَّرنا» بأنفسنا بشرنا على نحو تبخيسيّ جدّاً؟

وهذا ما يضعنا أمام سؤال لا يجدي الهرب منه بالنقيق المتواصل الذي يجمع بين البله والنفاق: فإمّا أنّ الغربيّ هو وحده الكائن الكونيّ، أو الأقرب إلى الكونيّة، بحيث يُنتقَد ويُساءل من هذا الموقع المهين لنا، أو أنّنا متساوون نحن والغربيّ في مدى كونيّتنا، أو لا كونيّتنا، بحيث ننتقد أنفسنا ونسائلها عمّا نفعل ببشرنا، وكيف ننتج أفراداً أحراراً، وحكومات تهتمّ بمصائر أفرادها، وصحفاً ذات هاجس كونيّ؟
والحال أنّ التعاطي بجدّيّة وبمسؤوليّة مع هذا السؤال هو ما يجعل الكلام محترماً وقائليه مستحقّين للاحترام.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يبكون ضحاياهم، لا ضحايانا يبكون ضحاياهم، لا ضحايانا



GMT 02:31 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

... عن الاحتجاجات الطلابيّة في الغرب وعن حدودها

GMT 02:47 2024 الأربعاء ,08 أيار / مايو

... عن «الاستعمار» بوصفه «خطيئة أصليّة»

GMT 02:49 2024 الأحد ,05 أيار / مايو

عن «الرجل الأبيض»!

GMT 02:18 2024 الأربعاء ,01 أيار / مايو

... عن مفهوم «الجنوب العالمي» الرائج اليوم

GMT 02:38 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

أميركا ــ إسرائيل وبعض علامات الأزمنة

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:44 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
  مصر اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في كان

GMT 14:26 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 00:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الكويت يتأهل إلى نهائي كأس ولي العهد بهدف قاتل على النصر

GMT 21:03 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

أياكس أمستردام يضم مدافع منتخب الأرجنتين

GMT 12:23 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

"جبل الصايرة البيضاء" موقع سياحي مهجور رغم إمكاناته الكبيرة

GMT 11:51 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طوارئ في مطار القاهرة استعدادًا للتفتيش الأمنى الأميركي

GMT 19:40 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ثلث أشجار الأمازون ونصف أنواعها مهددة بالإندثار

GMT 19:50 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

يرقة الفراشة اليابانية تتحول إلى براز لتحمي نفسها من الطيور
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon