توقيت القاهرة المحلي 10:52:44 آخر تحديث
  مصر اليوم -

أستاذنا «الزميل» جورج طرابيشي

  مصر اليوم -

أستاذنا «الزميل» جورج طرابيشي

بقلم حازم صاغية

بوفاة المثقف السوري البارز جورج طرابيشي، تخسر الثقافة العربية، على ما أشار بحقٍّ كثيرون، رمزاً تميز بسعة الإحاطة والدقة والدأب في ما يتناول، فضلاً عن الجرأة الفكرية على أفكار كان يعتنقها ثم لا يلبث أن يطور حيالها موقفاً نقدياً.

فجورج كتب وترجم عشرات الكتب التي امتدت من السياسة والفلسفة إلى علم النفس والنقد الأدبي والنسوية، قبل أن يتفرغ كلياً للتراث الإسلامي عبر نقده أعمال محمد عابد الجابري. بهذا واكب الحقب السياسية والفكرية التي تتالت على العالم العربي، لكنه على عكس معظم «المثقفين الكبار» العرب، لم ينقطع عن متابعة ما يجري في عالمنا وتحولاته: فعلى مدى نيف وعشر سنوات، واظب على كتابة عرض أسبوعي لواحد من الكتب السياسية أو التي تتصل بالفكر السياسي، الصادرة حديثاً في فرنسا. وفي ملحق «تيارات»، في هذه الجريدة، كان «الزميل» جورج ينشر عروضه بتواضع وتخفف من الأنا، وبدأب ودقة ليست مما يوصف به عادةً مَن يُسمَّون «المفكرين العرب».

لقد انتقل جورج طرابيشي من حزب البعث الذي اعتنقه يافعاً، إلى خليط من الماركسية والوجودية أثمر كتباً كـ «سارتر والماركسية» و «الثورة في الثورة الطبقية». لكنه، وكما لاحظ وائل السواح، ترك البعث بُعيد استيلاء هذا الحزب على السلطة، ضداً على جموع المستفيدين ممن انضموا إليه بعدما صار حزباً حاكماً. أما الماركسية، فبحث عن أسئلتها وتناقضاتها، على ما تدل كتب له، كـ «الماركسية والإيديولوجيا» و «النزاع الصيني السوفياتي» وسواهما. وهو بعدما أنشد فترةً، كصديقيه الأكبر سناً بقليل ياسين الحافظ والياس مرقص، إلى خليط ماركسي– قومي عربي بنكهة ناصرية، جاء كتابه «الدولة القطرية والنظرية القومية»، لينبه ضمناً إلى تحفظاته عن هذا الخيار وعن تراجع احتمالاته.

أما اهتمام جورج اللاحق بالتراثيات والإسلاميات فكان مسوقاً بموقف نقدي حاد من متناوليها وإشكالياتهم. بهذا، وعلى نحو قريب مما أشار إليه حسام عيتاني، وضع ثقافيته في مواجهة الثقافية السائدة التي جعلت ثنائية التراث والمعاصرة (أو الأصالة والحداثة) نسغاً قليل الخصوبة لشرايينها الجافة وهربها المداور من «معاصرة العصر».

ولئن أقام جورج في بيروت التي وفرت له مناخاً من الحرية لا توفره سورية البعثية، ففيها تولى رئاسة تحرير مجلة «دراسات عربية» التي نشرت وترجمت بعض ألمع الدراسات التي كُتبت أواخر الستينات وأوائل السبعينات. فحين نشبت الحرب الأهلية– الإقليمية في لبنان، هاجر طرابيشي إلى باريس، التي استقر فيها، برفقة زوجته الروائية هنرييت عبودي، إلى أن وافته المنية.

لقد عُرف جورج، المثقف البارز والرجل المحترم، بنزعة ذهنية مصفّاة كانت أحد مصادر نزاهته وتواضعه بقدر ما كانت هي نفسها من أسباب غلوه في التجريد طلباً للعلمانية وإصراراً على التقدم والعقلانية. وخلفيةٌ كهذه قد تُلحق بصاحبها نوعاً من الشلل السياسي حيال واقع لم تتوقعه النزعة الذهنية القصوى، وهي قد تحرفه مراتٍ إلى شيء من الوعظ، خصوصاً حين يبخل ذاك الواقع بتقديم الحوامل اللازمة لتلك القيم الكونية. وأذكر، في المرة الأخيرة التي التقيته في باريس أواسط 2012، كيف انقسم حديثه السياسي شطرين متعادلين، واحداً يدين نظام الأسد، لاستبداده وعدائه للديموقراطية، وآخر يخاف الثورة، لما اعتبره ميلاً عنفياً ونزوعاً دينياً وطائفياً تتزايد وطأته عليها. لكن المؤكد أن جورج بدا أشد حزناً على سورية من اهتمامه بعرض آرائه السياسية حيال نظامها وثورتها، فحديثه يومذاك طغى عليه العاطفي والوجداني ومصطلحات الحنين والخوف والقلق وصولاً إلى الموت. وهو نفسه، في آخر نص كتبه، إنما أدرج موته «الصغير» في الموت الكبير لوطنه.

كائناً ما كان الأمر، ولأن المحاكم العرفية والعسكرية هي وحدها ما يختصر حياة المرء وإنتاجه في موقف سياسي مختلَف عليه، يبقى طرابيشي، لي ولكثيرين من أبناء جيلي والجيل الأصغر قليلاً، أحد الأساتذة الذي علمنا الكثير. وكان بعض ما علمنا إياه، في عمله وفي حياته، الشجاعة الفكرية والنزاهة والتواضع. عسانا نتعلم.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أستاذنا «الزميل» جورج طرابيشي أستاذنا «الزميل» جورج طرابيشي



GMT 04:46 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

نيران صديقة فى مهرجان (كان)!!

GMT 04:43 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

بين احتجاجين

GMT 04:37 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

فى رحاب السيدة!

GMT 04:33 2024 الإثنين ,13 أيار / مايو

عبيد باليونيفورم

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 11:44 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
  مصر اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في كان

GMT 14:26 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 00:03 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الكويت يتأهل إلى نهائي كأس ولي العهد بهدف قاتل على النصر

GMT 21:03 2018 السبت ,06 كانون الثاني / يناير

أياكس أمستردام يضم مدافع منتخب الأرجنتين

GMT 12:23 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

"جبل الصايرة البيضاء" موقع سياحي مهجور رغم إمكاناته الكبيرة

GMT 11:51 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طوارئ في مطار القاهرة استعدادًا للتفتيش الأمنى الأميركي

GMT 19:40 2015 السبت ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

ثلث أشجار الأمازون ونصف أنواعها مهددة بالإندثار

GMT 19:50 2015 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

يرقة الفراشة اليابانية تتحول إلى براز لتحمي نفسها من الطيور
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon