توقيت القاهرة المحلي 21:16:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نعم... نحن نحقد ونتخيّل!

  مصر اليوم -

نعم نحن نحقد ونتخيّل

بقلم: حازم صاغية

في 1968 سحقت دبّابات «حلف وارسو» ما عُرف بـ «ربيع براغ». المثقّفون التشيكوسلوفاكيّون نالوا حصّة الأسد من الاضطهاد الذي رعاه «الأمين العامّ» غوستاف هوسّاك، ومن ورائه «الأمين العامّ» الأكبر ليونيد بريجنيف: سجنٌ، رقابة، طرد من العمل، هجرة، يأس، حالات انتحار وحالات طلاق... محنة المثقّفين التشيكوسلوفاكيّين يومذاك، والتي استمرّت لسنوات طويلة، غذّت أعمالاً أدبيّة وسينمائيّة لا تُحصى. كذلك صارت واحدة من أبرز المِحن التاريخيّة والكلاسيكيّة للمثقّفين والنُخب في عالمنا المعاصر.
لبنان، بسبب الدور البارز للتعليم والإعلام والنشر فيه، وهي كلّها من أفضال الحرّيّة علينا، أوكل إلى بيئته الثقافيّة موقعاً مميّزاً. هذا الموقع لم يتحوّل فحسب مصدراً من مصادر اقتصاده ودخله، بل صار بالفعل معادلاً للوطن نفسه، معنى ثانياً له أو دلالة أخرى على وجوده: من دون قدرة على الشكّ والنقد والاختلاف حول كلّ شيء، أي من دون الحرّيّة، لا يعود هناك مبرّر لهذا الوطن، سيّان أقُسّم أو وُحّد، وسيّان أحُرّر أو احتُلّ. هذه تغدو، في الحالة اللبنانيّة، تفاصيل وزوائد.
اليوم تعاني البيئة الثقافيّة في لبنان حصاراً قاتلاً من الصنف التشيكوسلوفاكيّ، ومثلما حصلت المحنة في براغ بعد سحق ثورتها، تحصل المحنة اللبنانيّة بعد ثورتين مضادّتين في سوريّا وفي لبنان تباعاً، لم يتأدّ عنهما إلاّ مزيد من القتل والفقر والضحالة. ومن يدري، فقد يتدهور حصار المثقّفين والمبدعين اللبنانيّين إلى ما هو أسوأ. ذاك أنّ الإمبراطوريّة المنضبطة التي كانها الاتّحاد السوفياتيّ وكتلته قد تكون أرحم من الإمبراطوريّة المنفلتة وقيد التكوين ذات المركز الإيرانيّ. هناك يتسيّد السلاح فوق مصادر أخرى للقوّة والاستبداد. هنا، كلّ القوّة في السلاح لا يجاوره إلاّ العدم: ففي ظلال الإمبراطوريّة إيّاها، يعيش اللبنانيّون كلّهم انهياراً اقتصاديّاً، واستحالة سياسيّة، وانقطاعاً عن العالم، بعدما ضربتهم جريمة شبه نوويّة في مرفأ بيروت. وهذه كلّها تُعاش كما لو أنّها بلا سبب ولا مُسبّب. في المقابل، ثمّة شيء واحد لا نزال نحظى به اسمه المقاومة، يُفترض أن يكافئنا عن فقد كلّ تلك الأشياء الأخرى!
وبالعودة إلى البيئة الثقافيّة تحديداً، نلاحظ أنّه غير بعيد عن حارة حريك، مثوى لقمان سليم، تُقتل الجامعات ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام ودور النشر، كلٌّ منها بطريقة، لكنّها كلّها تلفظ أنفاسها في ظلال الإمبراطوريّة السلاحيّة إيّاها. فلهذه الأخيرة في كلّ واحدة من عمليّات القتل دورٌ، يزيد أو ينقص، وهو قد يكون مباشراً هنا أو مداوراً هناك.
وسط هذه المحنة، ووسط العراء الكامل من كلّ قانون ومساءلة، بدأ مطلب «الحماية الدوليّة» يتردّد في لبنان مصحوباً بضعف الثقة بإمكان تلبيته، ما يضاعف الألم ويضفي عليه مسحة من المرارة.
إعدام لقمان سليم حرّك ذاك المطلب الذي تداولته بيئة المثقّفين والصحافيّين والكتّاب، فأضافته إلى مطالب سابقة كالتحييد والتدويل، وقبلهما المحكمة الدوليّة. ذاك أنّ الشعور الطاغي هو أنّ ما هو محلّيّ لا يحمي: الدولة وقانونها وجهازها القضائيّ فعلوا كلّ ما يلزم لترسيخ القناعة بفكرة كهذه. السوابق أكثر من أن تُحصى.
لقد بات المؤكّد لكثيرين أنّ الحلّ، إذا كان من حلّ، مصدره الخارج حصراً. وهو إن لم يأتِ الآن، ففي غد ما قد يأتي.
وإبّان انتظارهم ذاك الغد، «خان» مثقّفو تشيكوسلوفاكيا «وطن الإشتراكيّة»، دفاعاً عن وطن حرّ بات يتعادل مع ثقافة حرّة. «خانوه» إمّا بالهجرة لمن استطاع أن يهاجر، أو بالنوايا لمن لم يستطع. فالذين ألقي بهم في السجن أو في المصحّ أو في البطالة راحوا يتفنّنون في تخيّل وطن آخر تسوده الحرّيّة ويصنعه قرار التشيكوسلوفاكيّين، لا قرار المركز الأبويّ في موسكو. بعد عشرين سنة سقط ذاك المركز واستعاد أولئك «الخونة» وطنهم وحرّيّتهم. وكثيرون من مثقّفي لبنان اليوم «يخونون» هذه الوطنيّة الخرقاء والمجرمة إمّا بالهجرة، أو بتمنّي الهجرة، ولكنْ أيضاً عبر التفنّن في تخيّل وطن يكون وطناً، تتداعى فيه إمبراطوريّة التخوين وكاتم الصوت.
فالبيئة الثقافيّة تقول اليوم إنّها ليست من عبّاد الوطن حين يغدو الوطن بيتاً للطاعة وعقاباً على الحرّيّة، وليست من عبّاد التحرّر والتحرير حين يغدوان أقصر الطرق إلى التخيير بين العبوديّة والقتل. وفي هذه الغضون تسرح المخيّلات بعيداً، لا يحدّها حدّ من مقدّس زائف ولا فاصل بين داخل وخارج. هنا تخاض المواجهة من أجل الوطن والحرّيّة والثقافة في وقت واحد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نعم نحن نحقد ونتخيّل نعم نحن نحقد ونتخيّل



GMT 03:48 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

قلنا: تفكير.. قالوا: تحصين وتكفير

GMT 03:47 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

فتح ملف الصناعة (١) «القانون هو الحل»

GMT 03:45 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

حسام حسن غلط فى دوري!!

GMT 03:36 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

د. أسامة السعيد.. هل يصبح خليفة سعيد سنبل؟!

GMT 03:25 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

«الجن» برىء من الحرائق

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:09 2024 الخميس ,16 أيار / مايو

«عادل إمام» الحاضر الأقوى في سينما 2024
  مصر اليوم - «عادل إمام» الحاضر الأقوى في سينما 2024

GMT 09:02 2017 السبت ,07 تشرين الأول / أكتوبر

إنفوغراف 2

GMT 15:01 2021 الإثنين ,26 تموز / يوليو

أحمد مجدي يشارك كواليس مسلسل "الآنسة فرح "

GMT 11:30 2021 الأحد ,18 إبريل / نيسان

تعرف على مدة غياب هاري كين عن صفوف توتنهام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon