توقيت القاهرة المحلي 06:35:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصعيد الذي يجهلونه

  مصر اليوم -

الصعيد الذي يجهلونه

بقلم : زياد بهاء الدين

ليس فى نيتى التعليق على البرنامج التليفزيونى الذى اتهم أهل الصعيد بأنهم يُكثرون من الإنجاب بغرض التكسُّب من تشغيل أبنائهم فى الورش ومن «شحن» بناتهم للعمل فى المنازل، فما قيل فى البرنامج ليس جديرًا حتى بالانتقاد، والصعايدة أسمعوا مصر كلها غضبهم، والقناة المسؤولة اعتذرت عن هذا الخطأ المهنى الجسيم. لهذا أدعو الأهل فى الصعيد إلى طى هذه الصفحة حتى لا تكون فتنة فى البلد، ولأن قبول الاعتذار من شيم الكرماء.

الذى يستحق التوقف هو ما عبرت عنه هذه الواقعة المؤسفة من جهل بالمجتمع، وانحياز تجاه سكان الريف بشكل عام والصعيد بصفة خاصة، أخشى أن يكونا أوسع انتشارًا فى مجتمعنا حتى بين فئاته المتعلمة.

من أين يأتى هذا الانحياز القبيح؟ هل من سوء التعليم واعتماده على مقررات جامدة تشبه أدوات الحشد والتعبئة ولا تعبر عن إنسانية وتنوع وثراء مجتمعنا، أم من المسلسلات التليفزيونية- ما عدا القليل منها- التى تكرر أنماطًا مستهلكة وغير واقعية للحياة الريفية «الكاريكاتورية»، أم أن الموضوع أكثر تعقيدًا وعمقًا ووراءه انحياز ثقافى راسخ ضد الريف وسكانه والنظر إليهم باعتبارهم عبئًا على المجتمع؟ أترك الرد للمتخصصين فى علم الاجتماع، وأكتفى- بحكم انتمائى العائلى لأسيوط وارتباطى بالصعيد خلال العشرين عامًا الماضية- بعرض بعض الحقائق.

الصعيد يعانى بالتأكيد من الفقر. ولكن الحقيقة أن الفلاح المصرى، لعقود وقرون طويلة، كان مصدر الفائض الاقتصادى الأساسى، الذى أتاح للبلد أن ينمو ويتقدم ويستهلك ويبنى المدن ويأخذ بأسباب التصنيع، وأن المزارعين خاصة فى الصعيد لايزالون يزرعون الأرض مقابل عائد لا يساوى الجهد ولا التكلفة المرتبطة بالزراعة لأسباب خارجة عن إرادتهم. هذه الأسباب تتعلق بتسعير الموارد والمدخلات والحاصلات التقليدية، وبالسيطرة على الأسواق واحتكارها. ولو نجحنا فى إدارة سياستنا الزراعية بشكل أكثر عدالة تجاه المزارعين لما تفاقمت مشاكل الريف الاقتصادية والاجتماعية، ولما كان عبئًا على البلد بل مصدر خير وعطاء اقتصادى وإنسانى كما كان عبر تاريخ مصر الطويل.

وشباب الصعيد والريف بشكل عام يهاجرون بالفعل كلما أُتيحت لهم الفرصة إلى القاهرة والخليج وليبيا، ومن وجه بحرى إلى أوروبا. ولكن الحقيقة أن سبب الهجرة عدم توافر فرص بديلة للعمل والعيش الكريم فى ظل ندرة الأرض الزراعية وقلة الاستثمار الصناعى والخدمى. ولو تم تطبيق سياسات تنموية واستثمارية أكثر انحيازًا إلى الريف وتوافرت معها أسباب العيش المعقولة لما اختار الشباب أن يتركوا منازلهم وعائلاتهم ويعيشوا فى غربة يكرهها المصريون بالفطرة على عكس كثير من الشعوب الأخرى المهاجرة بطبيعتها.

وسكان القاهرة يشتكون من غزو أبناء الريف والصعايدة لأحيائهم. ولكن الحقيقة أن ما تجرى الإشادة به من بناء وتعمير ومعمار فى المدن والمجتمعات الجديدة والمنتجعات والمناطق الصناعية ما كان ليتحقق لولا الهجرة الداخلية لأبناء الريف والصعيد بصفة خاصة، واستعدادهم للعمل فى ظروف شاقة ومقابل أجور متواضعة وبجلد وصبر وعزيمة لا يقدر عليها غيرهم.

والعائلات فى الريف والصعيد بالذات كثيرة الإنجاب بلاشك، وهذه مشكلة حقيقية تهدد التنمية، ولا مجال للتهوين منها. ولكن الأكيد أن هذا ليس بغرض «الاسترزاق» من الأبناء والبنات، بل لأن الثقافة السائدة لاتزال تعتبر الأبناء مصدرًا للقوة والأمان، وتحديد النسل إنكارًا للنعمة. هذه ثقافة معيبة وسلوك خاطئ وعادات بالغة الضرر بأصحابها وبالمجتمع. ولكن التعامل معها يكون بالتعليم والتوعية والإعلام المستنير والخدمات الطبية والسياسة السكانية الواعية وليس بالاستهزاء والتعالى على أهل الريف.

الحقيقة أن مشاكل الصعيد الاقتصادية والاجتماعية عديدة ومعروفة، ولست بصدد إنكارها أو تصوير المجتمع الصعيدى كما لو كان مثاليًا. بل الاعتراف بما يعانى منه الصعيد من فقر وسوء الخدمات العامة وانتشار العادات الاجتماعية السلبية هو المدخل الضرورى لإصلاحها ولحث الدولة على توفير الموارد لها. ولكن التعامل معها يجب أن يستند إلى معلومات صحيحة وتقييم موضوعى لأصل المشاكل وأسبابها ونقاش واعٍ حول البدائل والأولويات وليس إلى الكلام المرسل والانطباعات والخرافات المتداولة.

لا أحب الحديث عن الصعيد و«الصعايدة» كما لو كانوا طائفة مختلفة من البشر- مدحًا أو قدحًا- لأن هذا كلام فارغ ومسىء للجميع وضار بالوحدة الوطنية. نحن أبناء وطن واحد والبشر متساوون، ولهذا فالانتباه إلى مشاكل جنوب مصر ومنحها الأولوية التى تستحقها يجب أن يكون مطلبًا وطنيًا يخصنا جميعًا أيًا كان موطن عائلاتنا الأصلى أو المختار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصعيد الذي يجهلونه الصعيد الذي يجهلونه



GMT 04:56 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

المستفيد الأول إسرائيل لا إيران

GMT 04:15 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الغضب الساطع آتٍ..

GMT 04:13 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

جبر الخواطر.. وطحنها!

GMT 04:11 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

عامٌ يبدو أنه لن يكون الأخير

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 18:31 2020 الأربعاء ,30 كانون الأول / ديسمبر

آندي روبرتسون يخوض لقائه الـ150 مع ليفربول أمام نيوكاسل

GMT 06:47 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

ترتيب الدوري الإنجليزي الممتاز بعد نهاية الجولة الـ 13

GMT 02:10 2020 الخميس ,10 كانون الأول / ديسمبر

7 أسباب تؤدي لجفاف البشرة أبرزهم الطقس والتقدم في العمر

GMT 22:29 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

أحمد موسى يعلق على خروج الزمالك من كأس مصر

GMT 11:02 2020 الجمعة ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرّف على أعراض التهاب الحلق وأسباب الخلط بينه وبين كورونا

GMT 03:10 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

زيادة في الطلب على العقارات بالمناطق الساحلية المصرية

GMT 22:14 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

بورصة بيروت تغلق التعاملات على انخفاض

GMT 12:08 2020 الثلاثاء ,21 إبريل / نيسان

خسائر خام برنت تتفاقم إلى 24% في هذه اللحظات

GMT 17:36 2020 الأحد ,12 إبريل / نيسان

الصين تعلن تسجيل 99 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 12:34 2020 الأربعاء ,08 إبريل / نيسان

شنط ماركات رجالية لم تعد حكرا على النساء
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon