بلا ضفاف، تبدو «مذكرات امرأة شيعية»، إذ ترى صـاحبتها، الروائية رجاء نعمة، أن الاسـتذكار حرية، وانطلاق يتمرد على التقييد، وترفض الكاتبة اللبنانية أن تكون المذكرات مجرد سيرة روائية، أو سرد لمحـطات حياتية، تبدأ بالميلاد ومراحل العيش هنا وهناك، والحكي المألـوف عن أحبة رحلوا، وأناس تركوا في الروح جروحا، ووطن يضم نحو ‬17 طائفة. تنطـلق «مذكـرات امرأة شيعية» التي صدرت حديثاً عن شركة المطبوعات للتـوزيع والنشر في بيروت، إلى ماض غير منقطع عن الحاضر، ماض يتصل بالحاضر ــ وأيضاً المستقبل ــ ويؤثر في مساراته، تذهب رجاء نعمة إلى منطقة أثيرة لديها، ولجتها تاريخياً من قبـل في أعمالهـا الروائـية، إذ تعود إلى فترة من فترات الحكم العثماني في المنطقة، ونمط الحياة قبل أكثر من قرن، ولا يبدو ذلك بعيداً عن المذكرات. «مذكرات امرأة شيعية» عنوان يبوح منذ البداية بشيء ما، يعلن هوية قد تجتذب قارئاً ما، لكنها في المقابل قد تحفز قارئاً آخر على أخذ موقف من المذكرات ربما قبل قراءتها، وكأن الكاتبة تنبّه متلقيها من البداية، تحرره من الدخول إلى عالمها الذي اختلطت معالمه بتواريخ وأحداث، صغيرة وكبيرة، تسرد له عن العائلة التي نشأت بين أفرادها، فيما فكرت وهي صغيرة، تحديدا عن كلمة «شيعية»، تحكي رجاء نعمة تفاصيل الحياة التي لا تختلف كثيراً عن غيرها، لجوء آخرين على غير الملة والدين إلى الجد، ونصرة الأخير لهم، ونمط الحياة المشترك، والمحبة التي غلفت سنوات ما قبل التهاب ورم الطائفية في لبنان، واحترام عقائد الآخر، وتنشئة الصغار على ذلك، تفصّل الحديث عن مدارس الراهبات، وجمعها فتيات من شتى الأديان، وغيرها من اللفتات التي توقفت عندها صاحبة «مذكرات امرأة شيعية». ثمة في المذكرات عائلة «شيعية» تنتقل من منطقة إلى أخرى، وتستقر في مدينة «صور»، يؤخذ أحد أبنائها إلى التجنيد الإجباري (والد صاحبة المذكرات)، لكنه بعد حين يهرب، وينضم إلى أحد المتمردين، وبعدها يهرب بعيداً، إلى أميركا، حالماً بأن يكون سبباً في عودة «أخ ضال» إلى حضن أمه. تتنقل «مذكرات امرأة شيعية» في فضاءات زمانية ومكانية عدة: ماضي لبنان وحاضرها، وكذلك فلسطين ما قبل النكبة، وما بعدها، تفصل الحكي عن شكل المنطقة قديما، والحدود المفتوحة، والجد والأب اللذين كانا يتاجران ما بين صور وعكا. كما تحضر في المذكرات هموم فلسطينية، ومآسي ما بعد النكبة، والجرح النازف من قبل ‬1948، ربما إلى العام الذي شهد وعد بلفور. ولأن رجاء نعمة روائية، فهي مشغولة بالتفاصيل الصغيرة، والمنمنمات الإنسانية التي لا تغيب عن المذكرات، إذ أثرت الكاتبة صفحات كتابها بالكثير منها: معتقدات وأساطير وطقوس شعبية، تمثل جزءاً ربما يكون مسكوتاً عنه، ولا يعطيه البعض انتباها، تسجل رجاء نعمة بعضها، بعفوية، في المذكرات، كما تسجل قصصاً موروثة عن نساء المكان، «صور» تحديداً، وتوثقها داخل كتابها الذي يقع في ‬415 صفحة. كما تعرض الكاتبة يوميات من الطفولة والمراهقة، كيفية تكون وعيها، وتعلقها بالحرف، تحكي في فصل خاص عن زميلات المدرسة، وثيابهن، وكيفية تعاملهن مع بعضهن، وكذلك قصص عشقهن الأولى، وبدايات التعرف إلى الآخر. وللمرأة حيز كبير من المذكرات، طفلة ومراهقة وشابة وأماً وجدة، متمردة على الحال أحياناً، ومتوائمة معه أحياناً أخرى.