توقيت القاهرة المحلي 04:57:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ست الشاى

  مصر اليوم -

ست الشاى

عمار علي حسن

مع نزول أهلنا فى السودان الشقيق محتجين على نظام البشير، مطالبين بإسقاط النظام تحت شعار «طير يا بشير» رحت أستعيد صور النساء المتراصات على شاطئ النيل فى الخرطوم، وكل منهن قد جلست أمام «نصبة شاى» بسيطة، وحولها مقاعد بلاستيكية ذات ألوان متنوعة، تغرف من المياه المنسابة فى وداعة، وتحبس ما غرفت فى براد كبير يتأرجح فوق وشيش «وابور الجاز» ثم ترمى ملاعق الشاى فى جوف الأكواب وتصب الماء المغلى على مهل حتى يمور ويحمر ويسود ويروق، فتعطيه للجالسين، ظهورهم إليها ووجوههم إلى نهر بكر ينساب فى وداعة نحو الشمال. كل واحدة من هؤلاء النسوة تحمل فى السودان اسم «ست الشاى»، وهن أرامل الرجال الذين أرسلهم البشير إلى الحرب فى الجنوب فعادوا جثثا هامدة، ووزع النظام فجيعتهم على نسائهم الباكيات، فسمح لهن ببيع الشاى للعابرين والمتنزهين من فتية وفتيات هاربين من حياة مقبضة وقوانين مقهرة ومزاعم فارغة، إلى براح النهر. كل شىء فى زمن البشير جالس مثل تلك النسوة، لكنه يفتقد وداعتهن وطيبتهن ورضاهن بالقليل، كما يفتقد صراحتهن ووضوحهن واستقامتهن وكدحهن بشرف واقتدار، وإن كان لا يخلو من تحايل مثل ذلك الذى تنسجه أمامك «ست الشاى» وهى تحاول أن ترضى زبائنها. فالنظام يرفع فى العلن شعارات «إسلامية» وفى السر يمارس كل ما يجافى الشريعة، من ظلم وقهر وبطش وتقييد وتدخل سافر فى حياة الناس واستعمال من لا جدارة لهم، وتفريغ البلد من مثقفيه وكُتابه ومن كل وميض لنور المعرفة والفن، يصقل العقل، ويشبع الوجدان. فعقل السودان الجميل حوصر من سنين فانفرط عقده فى بلاد الناس وجعا وغربة، فالبشير ورجاله كانوا حريصين على التخلص من كل الذين ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويقولون غير ما تطلقه أبواق النظام. وقلب السودان، حيث التدين الوسطى المعتدل الذى يمزج الفقه بالتصوف والرواية بالدراية ومقتضى الشرع بالموروث الشعبى المفعم بالقيم الإنسانية والأخلاقية، تم الاعتداء عليه من خلال خطاب زاعق ناعق يجنح إلى التطرف، وتغشيه قطع الليل المظلمة، والرغبة الجامحة فى إيقاف عجلة التاريخ، واصطياد أفئدة الناس وحبسها فى صندوق عبأته السلطة بكل أصناف التجارة بالدين. وساعِد السودان انكسر فى حرب أهلية ونزاعات جهوية معلنة وصراعات طبقية مكتومة وإخفاق اقتصادى واجتماعى جارح وعسس يعد على الناس أنفاسهم، فلم يعد قادرا على أن يهش عن جسد البلاد العريض تلك الأيدى التى تتخطف لحمه، فانفصل جزء وتصدعت أجزاء، ولا تنشغل السلطة إلا بما جمعته من ثروات وقيود، ولا يشغل الأرض التى تنحسر من تحت عجيزتها، فالمهم أن يبقى رجالها فوق الكراسى أطول فترة من الزمن. كل هذا يدور بين المنازل وينزلق إلى الحارات والشوارع ثم يندفع إلى شاطئ النيل، وراءه البيوت الخفيضة الهادئة وأمامه المدى الأخضر الرائق، ليقف هنا عند أطراف أصابع «ستات الشاى»، الساكنات الجالسات على قارعة الزمن، يتابعن المسيرات الحاشدة التى تمر فى صخب وتهتف: «الشعب يريد إسقاط النظام». وقد يجد بعض المتظاهرين فرصة سانحة ليجلسوا قليلا، يرتشفون الشاى الساخن، ثم ينهضون من جديد لينضموا إلى الحشود الزاحفة نحو الحرية والعدل، وكل منهم يساوره سؤال حائر عن مصيره، فمن يدرى أن يستشهد بعد قليل برصاص غادر لتأتى أرملته وتصبح «ست شاى» هنا، على الضفة اليسرى للنهر العظيم؟ نقلاً عن "المصري اليوم"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ست الشاى ست الشاى



GMT 01:56 2024 السبت ,11 أيار / مايو

شعب واحد في بلدان كثيرة

GMT 01:53 2024 السبت ,11 أيار / مايو

من هو عدو العرب؟

GMT 01:48 2024 السبت ,11 أيار / مايو

من النهر للبحر... هناك مكان للجميع

GMT 01:45 2024 السبت ,11 أيار / مايو

الأسرة في قلب العاصفة

GMT 01:31 2024 السبت ,11 أيار / مايو

عالم الحروب وسلام «كانط» الدائم

GMT 01:28 2024 السبت ,11 أيار / مايو

اتفاق غزة... الأسئلة أكثر من الإجابات!

GMT 20:05 2024 الجمعة ,10 أيار / مايو

من أكثر تهوراً... البرهان أم «حميدتي»؟

GMT 19:57 2024 الجمعة ,10 أيار / مايو

اجتياح رفح لن يكون النهاية

نانسي عجرم بإطلالات خلابة وساحرة تعكس أسلوبها الرقيق 

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2021 الإثنين ,11 كانون الثاني / يناير

مورينيو يرفض وضع توتنهام رهينة لكورونا

GMT 10:44 2021 الإثنين ,08 شباط / فبراير

صيحات موضة البوت متناهي الطول من وحي النجمات

GMT 20:44 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

روجيه فيدرر يشارك في بطولة قطر المفتوحة للتنس
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon