يبرز المغربي بوشعيب الساوري الدور الخطير الذي تمارسه الإشاعة في تفتيت الأسرة، وبالتالي تفتيت المجتمع برمته، حين تتغلغل في نفوس الكثيرين، ويصور كيف أن ثمة تهيئة مسبقة عند كثيرين لتقبل كل ما يقال، من دون إخضاعه للمحاكمة العقلية، وبالتالي تداوله كحقيقة واقعية، وينذر أن هذا الأمر والسلوك من الخطورة بمكان، لأن الإشاعة متنقلة، ولا تكتفي بشخصية أو حركة أو قوة، بل تتعاظم تأثيراتها ودوائرها، ما قد يشكل عائقاً أمام التفاهم والتسامح. يقتفي الساوري في روايته «غابت سعاد»، (النايا، محاكاة، دمشق 2013) خيوط حكاية الفتاة سعاد، التي يشكل غيابها شرارة لإطلاق الإشاعات عنها والتقولات عليها، تنشط التخمينات والظنون حول أماكن تواجدها المحتملة. يدعم كل واحد تخمينه بحكاية يحاول أن تكون مقنعة، وذلك كله يأتي في إطار انشغال المرء بالآخرين عن نفسه، وتزجية الوقت وهدره باختلاق المزاعم وتضخيمها لتشكل بؤراً لحكايات لا تنتهي. على طريقة الاستقصاء الصحافي، وبنوع من التحري الخاص، يبني الساوري روايته التي يختار السنين الأولى من الألفية الثالثة لتكون منطلق أحداثها الزمانية بكل ما سادها من تغيرات وتوترات، وما اعترك فيها من تبدلات، سواء كان ذلك على الصعيد العالمي أو على صعيد المنطقة العربية، ثم يتركها جانباً ليلتفت إلى ما تناهب أسرة بائسة في بلدة مغربية من تغيير جراء غياب ابنتها. كما يختار بلدة عين الشق كبيئة شعبية يسودها البؤس ويعمها الفقر لتحتل مسرح الأحداث وتكون أرضيته المكانية. - حضورُ الغياب: يجد العجوز عزوز نفسه أمام مشكلة غياب ابنته سعاد، الغياب الذي يتحول إلى فجيعة للأسرة كلها، يحاول إقناع نفسه باختلاق أسباب مقنعة لغياب ابنته، يواسي نفسه بأنها تهاتفهم بين الفينة والأخرى، تخبرهم أنها بخير، وترسل إليهم ما يتيسر من نقود. فتارة تخبرهم أنها في الدوحة تعمل كاتبة شخصية برفقة أحدهم، ثم تنقطع أخبارها لأشهر، لتعود وتخبرهم أنها صارت مربية أطفال الرجل لأن زوجته ماتت. وهكذا، بعد كل قطيعة، ترجع بخبر جديد تضيفه إلى سجل أخبارها لدى والديها، وتبقيهما من خلالها متأملين رجوعها، لتحقق لهما آمالهما بحياة هانئة. وبينما هي في غمرة تلك الحالة بين الحضور الكلامي والغياب الحقيقي، تنهش الإشاعات التي تنال من سمعتها أهلها. وتتتالى الإشاعات حتى يتخذ غيابها صفة وصمة العار التي تنخر بنيان الأسرة كلها، وتعكس خواء الحلقات الاجتماعية المتداخلة. يقسم صاحب «التباس هوية النص» روايته إلى قسمين؛ سفر الخروج، وسفر الأخبار، يحوي كل سِفر منهما على ثمانية فصول، بالإضافة إلى استهلال السارد والخاتمة التي جاءت على صيغة اعترافات منه. ويكون اختياره لعنوانه محاكاة لقصيدة البردة الشهيرة لكعب بن زهير بن أبي سلمى التي تستهل بـ«بانت سعاد فقلبي اليوم متبول..»، وذلك مع افتراق في الحكاية المعالَجة. في القسم الأول؛ سفر الخروج، يركز الروائي على التغلغل في بنية مجتمع الرجال في البلدة، من خلال شخصية «عزوز» الذي يكون محور الأسفار وموضع الاختبار والاستجواب، إذ أن تشاؤمه من عودة ابنته سعاد ينال منه، ويجد ملاذه في عمل بعيد يؤمنه له أحد معارفه، ويقتضي منه الترحال بين المدن، ما يريحه من أحاديث الناس التي لم ترحمه. أما في سفر الأخبار، فيسعى إلى تسليط الأضواء على تركيبة مجتمع النساء في البلدة، فتحتل فاطمة واجهة الأخبار، وهي التي تتلهف لأي خبر عن ابنتها، وما إن تتلقفه منها حتى تشيعه بين جاراتها اللاتي يتبادلنه بكثير من التشكيك، ويدأبن على النيل من سمعة ابنتها.