كسائر المدن الفلسطينية تم توثيق تاريخ مدينة الناصرة -أكبر المدن بالداخل- اعتمادا على الوثائق المكتوبة والروايات الشفوية، لكن كتابا جديدا يفعل ذلك أيضا بالصور الفوتوغرافية منذ اختراع الكاميرا. ويستدل من مراجعة كتاب "الناصرة سجل مصوّر" للباحث في التراث خالد عوض أن الناصرة -القائمة على منطقة جبلية ومشرفة على مرج بن عامر- طالما كانت واحدة من أكبر وأجمل المدن الفلسطينية. كما يبرز السجل الفوتوغرافي تميزها بمكانتها الدينية بالنسبة للمسيحيين في العالم والذين طالما حجوّا لها بجانب زيارتهم للقدس وبيت لحم منذ قرون كثيرة بغية زيارة المدينة التي بشر الله فيها مريم العذراء بميلاد السيد المسيح. ويتضمن الكتاب مجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية والوثائق التاريخية والخرائط التي تم جمعها من ألبومات المنازل وأرشيف مكتبة الكونغرس وأرشيف صندوق استكشاف فلسطين وأرشيف التيراسانطا في القدس وأرشيف الجامع الأبيض في الناصرة وأرشيف مؤسسات تبشيرية في المدينة. ويسّلط هذا السجل الضوء على أول المصورين المحترفين الغربيين الذين ساهموا بصورهم الفوتوغرافية في توثيق الناصرة من أواخر العهد العثماني حتى نهاية الاستعمار البريطاني. ويشمل السجل صورا توثق الأماكن والمعالم الدينية والأحداث السياسية والعسكرية والمناسبات الاجتماعية، وهي لمصورين أجانب قدموا إلى فلسطين بدوافع دينية استشراقية بالأساس، كما يستدل من صورهم التي هيمنت عليها المواقع الدينية. لكن السجل تضمن صورا بجودة عالية جدا لمصورين فلسطينيين أيضا اقتنوا أجهزة التصوير (ستيريوسكوب) بعد اختراعها عام 1839 ومن أبرزهم فضيل سابا من الناصرة. وتصادق الصور على ما ترويه المصادر التاريخية بأن المدينة الفلسطينية الأكبر بالداخل اليوم كانت قد شهدت بنهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ازدهارا تجاريا وعمرانيا وسكانيا. وتروي الصور الظريفة النادرة بدءا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر كيف قامت شبكة المواصلات داخل المدينة ومنها وإليها على الجمال المحملة بشتى أنواع البضائع. كما تروي صور أخرى من نفس الفترة قصة حرف وأعمال انقرضت أو باتت نادرة جدا اليوم كالحدادة والنحاسة وغيرها. وتظهر الصور كيف تغذت المدينة من مياه العين المركزية المعروفة بـ"عين العذراء" التي أقبلت عليها نساء المدينة وهن يحملن جرارهن الفخارية على رؤوسهن بطريقة لافتة. وأيضا تبين أطفال المدينة وهم يرتدون القبعات الحمراء كما كان شائعا نهاية الحقبة العثمانية وفترة الانتداب البريطاني. يُذكر أن كتبا كثيرة ألفها باحثون محليون ومستشرقون حول تاريخ الناصرة بحقب مختلفة، لكن الكتاب الجديد يمتاز بوفرة الصور التاريخية النادرة التي تعتبر وثائق تاريخية ومصدرا لكتابة سيرتها. ويوضح صاحب الكتاب خالد عوض للجزيرة نت أن سجلات الصور التاريخية تهدف لكشف الحقيقة، لاسيما وأن "الصهيونية عملت على طمس الصور الفوتوغرافية خلال نهبها المكتبات الخاصة والعامة والمنازل خلال نكبة 48". وعبّر عوض -وهو مدير جمعية السباط للحفاظ على التراث- عن أمله بأن يتمكن من إنشاء أرشيف فلسطيني للحفاظ على الموروث الثقافي وحراسة الذاكرة الجماعية الوطنية. ويوضح رئيس بلدية الناصرة رامز جرايسي أن ما يميّز الكتاب غزارة الصور الفوتوغرافية والمعلومات التاريخية التي تعطي صورة مرئية للمدينة بواقعها الإنساني وموروثها العمراني. وقال جرايسي للجزيرة نت إن الكتاب يسهم في تشكيل وعي الأجيال لصورة مدينتهم بالقرنين الماضيين، بحواريها وعيونها وأزقتها وأديرتها ومساجدها وأسواقها وبيوت الأيتام والمدارس والأسواق. ويتفق المؤرخ ابن المدينة محمود يزبك مع جرايسي، ويشير إلى أهمية إعلاء شأن وتوثيق المدينة التي "أغفلها الباحثون وتحاول السلطات الإسرائيلية تهميشها بعدما نهبت من أرضها ووثائقها وحاولت النيل من روايتها". ويشير يزبك لمساهمة الصور التاريخية في الكتاب بتعميق وحماية الرواية التاريخية للمدينة التي تتميز بتآخي المسلمين والمسيحيين فيها. ويتابع "تظهر الصور التاريخية أيضا التلاقي الروحاني من خلال الانسجام العمراني وتلاصق المسجد بالكنيسة". وردا على سؤال الجزيرة نت، شدد يزبك على قيمة الصورة الفوتوغرافية ذات السحر الخاص ومساهمتها في تشكيل ذاكرة جمعية لأهل هذه المدينة لتصبح لونا من ألوان هويتهم الثقافية والحضارية واستعادة معانيها وبريقها بعد مسح الغبار عن جواهرها.