شخصيات تاريخية في ”السائرون نياماً”

استطاع الكاتب سعد مكاوي في رواية "السائرون نيامًا" تقديم شخصيات تاريخية ومواقف حبلى بالمعاناة والصراع، شحنت النص بجماليات فنية وأكسبته مذاقًا سرديًّا وتأويليًّا مميزًا، فهي اتخذت من التاريخ خطوطًا عريضة، ومعالم تضيء بها مساحات اجتماعية كانت موجودة منذ وقت مضى، والحقيقة أنها تلفتنا إلى وقائع وأشخاص وحيوات، مقدمة تأويلات ودلالات، وراسمة صورًا مشابهة لأخرى تحيا في وقعنا المعاصر، بالاختباء وراء قناع التاريخ، بطريقة تساير العصر، استثمارًا لما حفل به العصر المملوكي من تناقضات هائلة، خصوصًا الغنى الفاحش، والفقر المدقع وغلبة القمع والقهر؛ والصدام الحتمي بين الحاكم الجائر والمحكوم المغلوب على أمره. جسد سعد مكاوي الــصورة التاريخية التي اشتهرت في العصر المملوكي من استباحة أموال الشعب ونهب أراضيه وخيراته وقتل الأبرياء، دون الإشارة لأبرز ملامحها التفصيلية المملة، حيث عبر عن تلك الأحداث بصورة قصصية جذابة، فجعل حدث خطف عزة على يد المماليك، بداية الأحداث الرئيسة في الرواية التي سعى الكاتب إلى الإشارة إليها وربطها بالواقع.

كما تمكن سعد مكاوي في ( السائرون نيامًا ) من إعادة صياغة توظيف عناصر تاريخ مرحلة محددة من مراحل الدولة المملوكية في قالب فني ممزوج بعناصر التاريخ الوثائقي؛ وذلك يعد إدانة جلية لتلك الفترة؛ ولا شك في أنه لم يقع في أسر اللحظة التاريخية التي أمسك بأطرافها ولم يستسلم لإغراء رؤى كثيرة سبقته، بتناول التاريخ أو التراث بكيفية نمطية لا تستثمر الإمكانيات الفنية أو تبعث روحًا في التاريخ، أو تنفصل عن الواقع المعاصر، لكنه نظر إليه بمنظور معايش ومعاصر، آخذًا بعين الحسبان اهتمامات إنسان عصره، وما يطرحه الواقع من أحداث وتحديات، فكانت رواية ( السائرون نيامًا ) نقلة وخطوة فنية واعية؛ ومن خلالها صار سعد مكاوي جسر الوصل بين الرواية التاريخية والشكل التاريخي، فقد بنى على جهود سابقيه، وفتح الباب واسعًا للاحقيه كي يدشنوا الشكل التاريخي في الرواية، على نحو ما فعل جمال الغيطاني في روايته ( الزيني بركات ) على سبيل المثال وغيره من الجيل التالي.

لقد جاءت رواية ثلاثية غرناطة تحمل في طياتها جميع مقومات الرواية التاريخية، فهي تفوح بعبق التاريخ الوثائقي، استندت رضوى عاشور إلى المصادر التاريخية وما دونته كتب التاريخ بكل دقة، فما إن يبدأ القارئ في قراءة سطورها الأولى حتى يجد نفسه بدأ يتحرك في غرناطة ويتجول في طرقاتها من خلال الوصف الدقيق البارع الذي قدمته الكاتبة، فهذه الرواية تسجل التاريخ أو تستلهم التاريخ وترصد أحداثه؛ لكي تسجل وتحذر من واقع أليم ومؤلم يتكرر، ونداء لأمة صامتة مستغرقة في سباتها، لا تعي تاريخها، ولا تأخذ منه العظة والعبرة، نجد أن رضوى عاشور استحضرت أحزانًا قديمة، وأثارت أوجاعًا حاضرة في الواقع، فأرادت الكتابة عن الماضي والحاضر، أو الكتابة عن الحاضر والواقع من خلال نبش أحداث الماضي واسترجاع أحداث التاريخ؛ لكي تثبت استمرارية الحدث، وتقدم لنا الوسيلة لمحاولة فهم واقعنا الذي نعيشه.

جاءت رواية ثلاثية غرناطة؛ لتحمل رؤية فنية انصهرت في بوتقتها حقائق التاريخ بعناصر المتخيل الموضوعي؛ لتحكي مأساة العرب الموريسكيين " الذين فرضت عليهم الظروف أن يبقوا في الأندلس بعد أن عاشوا السقوط العربي فيها، وذلك منذ عام 1492 م، فترصد أحوالهم وحياتهم، وحياة أحفادهم من بعدهم، تلك التي امتدت حتى عام 1609 م، وهو العام الذي شهد طرد العرب منها بعد صدور قرار الأسبان بهذا الشأن.
كما تظهر براعة محمد جبريل ومهارته في توظيف التاريخ الأسطوري الوثائقي المتناص مع الفكر الصوفي في شخصيات معروفة ومشهورة في تاريخ التصوف؛ حيث أدمج أحداثها بين تداعيات أسطورية واسترجاعات تاريخية تروي إبداعات الكاتب في استخدام المفردات الصوفية التي تنطوي على دلالات أسطورية غلف بها فصول روايته التي تطرقت إلى تاريخ الفكر الصوفي في الإسكندرية؛ لتعمق من هذه الدلالات الأسطورية وتاريخ الصوفية الوثائقي بما حمله من مظاهر فنية تتصف بالغرابة، وتشتمل على نواحٍ معرفية صوفية متعددة ومتنوعة؛ لإشاعة جو من الأسطورة التي وثقت صلتها بالتاريخ والنظرة الصوفية التي أسهمت في تشكيل رؤية الكاتب.

تكتل النصي الصوفي الوثائقي حيث يحاول فرض سطوته على النص الأسطوري ليجعله خاضعًا له ويدور في فلكه ويتداخل معه التكتل النصي التاريخي الوثائقي مع التكتل النصي الصوفي؛ ليروي تاريخ التصوف في البيئة البحرية حيث تتصارع التكتلات الثلاثة: الأسطورية ــ التاريخية ــ الصوفية؛ ليظهر التشابه بين الشخصيات الصوفية، وإن اختلفت البيئات فقد اجتمعوا على الطريقة والمنهج الشاذلي لتقترب هذه الشخصيات من بعضها البعض ويكتمل التواصل بينها داخل البيئة البحرية والتي نسجت حولهم الخيوط الأسطورية المتشابكة والمتشابهة لتجتمع التكتلات على دلالات رمزية منبثقة من المنهج الشاذلي والأسطوري، عاكسة للجوانب التاريخية والنواحي المعرفية المتناصة مع التاريخ الوثائقي.

جاء السرد في ( السائرون نيامًا ) معبرًا عن المرحلة نفسها، ومحددًا إطار الوصف بما يلائم الصدق الفني، فالرواية جاءت معبرةً عن مرحلة ختامية لعصر المماليك، وهي فترة لا تتجاوز السنوات العشرين الأخيرة من نهاية حكم المماليك من خلال شخصياته؛ فالإنسان عندما يفقد التواصل مع ذاته ومع الأنا الجماعية يستحضر الماضي، فيكون الماضي مرتكزًا أساسيًّا ليستعرض من خلاله سوء الأحوال السياسية والاقتصادية؛ فهو إدانة صريحة لعصر السارد الذي عاشه.

اتكأت الكاتبة رضوى عاشور في سرد ثلاثية غرناطة على الراوي المحايد؛ بالقيام بعملية السرد الروائي التاريخي، فهمي تمثل الراوي العليم بالأحداث والمشارك فيها بموضوعية، حيث لا يتدخل في تفسير الأحداث، بل يكتفي بوصفها وصفًا محايدًا؛ كما لو أنه شاهدها أو استنبطها من أذهان الشخوص. الخيال السردي الواسع لدى محمد جبريل في أهل البحر اشتمل على معرفة ثقافية للسارد مرتبطة في ذات الوقت بالجذور

قد يهمك أيضا:

فيلم الأوسكار «The Revenant» في مركز الثقافة السينمائية الأربعاء
بيتر ميمي يعلن عن موعد طرح فيلم موسي في السينمات