موائد الرحمن الرمضانية

اختلطت رائحة اليود النقي الآتي من شارع البحر في الإسكندرية مع روائح الأطعمة المختلطة من لحم متبّل وأرز بالشعيرية وبقوليات مطهوّة وتورلي (مجموعة خضار مطهوّة بالصلصة) حيث تنتظر مئات الصحون المعدنية اللامعة الفارغة، القابعة فوق طاولات خشب ممتدة في صف طويل بلا نهاية، في الشارع الضيق المتفرع من شارع البحر، تمتلئ بما طاب من الأطعمة لتُفْطِر أكثر من مئتي صائم من ضيوف الرحمن.

وذكر تقرير لجريدة "الحياة" أن سمة توليفة بشرية تجمع عشرات القصص والحكايات اليومية للصائمين المفطرين معاً، مختلف الثقافات والانتماءات والأيديولوجيات والطبقات تحتضنها الطاولات الخشب بغطائها من قماش الخيامية، وحدتها لحظات متفردة من روحانيات الشهر الفضيل من التراحم والمودة، وألف بين قلوبها اقتراب مدفع الإفطار. يشتعل الشارع من أوله حتى نهايته بحركة الوافدين من الصائمين الفقراء وذوي الحاجة، والذين يجدون صعوبة في ترك أماكنهم مثل رجال المرور والحراسة والنظافة وأطفال الشوارع، والعاملين في المحال التجارية وهم الهدف الرئيسي لموائد الإفطار الرمضانية (موائد الرحمن)، والمتأخرين عن منازلهم أو المسافرين الذين لن يصلوا قبل أذان المغرب وأي من المارة أو عابري السبيل وكل من يرغب. وهؤلاء من المتطوعين في عمل موائد الرحمن الرمضانية.

ويعد المؤسس الأول للدولة الطولونية في مصر والشام أحمد بن طولون (220هـ - 270هـ) صاحب فكرة موائد الرحمن الرمضانية في مصر، إذ جمع كبار رجال الدولة من التجار والأعيان وقادة الجيوش ليخطب فيهم في السنة الرابعة من ولايته في مصر ويذكر الناس بالبر والتقوى ويوصي أغنياءهم بالإحسان إلى فقرائهم.

يقول أستاذ التاريخ في جامعة طنطا الدكتور سامي عبدالفضيل: «تحولت موائد الرحمن إلى طقس رمضاني مميز غالى فيه الفاطميون إبان حكمهم مصرَ حين كانت الموائد تمتد بطول الشوارع المصرية الكبرى، وسميت إفطار دار الفطرة.

عقب ذلك، تغير شكل الموائد فتحولت إلى وجبات توزَّع على الصائمين من المحتاجين والفقراء، وانتشرت هذه العادة بين الحكام المتعاقبين لكسب ود الشعب المصري، وكان من أشهر موائد الفطرة الرمضانية المعز لدين الله الفاطمي (931هـ- 971هـ) التي كانت تقام في طول البلاد وعرضها وكانت تفطر مئة ألف صائم يومياً وانتشرت في البلاد العربية والإمارات الإسلامية».

وعن العصر الحديث، يوضح عبد الفضيل: «أفل نجم موائد الرحمن كثيراً عقب الحكم الإسلامي في مصر إلا أنه ظهر في بداية عهد الملك فاروق الذي كان يقيم مأدبة هائلة في ساحة قصر عابدين يفتتحها بنفسه يومياً مع أشهر قراء القرآن الكريم، ويستضيف فيها المسؤولين والفقراء وأبناء السبيل». ويضيف:» عقب ثورة عام 1952، اختفت موائد الرحمن لارتباطها بالملكية، لتعود عام 1961، ويتولى بنك ناصر الاجتماعي الإشراف على موائد الرحمن في شكلها الحالي».