جزيرة ليزبوز اليونانية

لم تعد جزيرة ليزبوز اليونانية مجرد إلهام للشعراء للسير على خطى سافو شاعرة ليزبوز الأشهر، بل هي بوابة أوروبا التي يعبرها المهاجرون الذين يقطعون البحر ليصلوا إلى برّ الأمان، آملين بالحياة فقط، ليحضر طيف سافو حارسا لهم، فهي التي تركت الجزيرة منفية إلى صقلية كأنها تردّد لأفواج القادمين بحرا أن ارحلوا عن موتكم، وهذا ما يحضر يوميا في صور لآلاف المهاجرين من الشرق حاملين أطفالهم ومتاعهم وآلامهم بعيدا عن جغرافيات الموت والقمع، نسمع صراخهم متقطعا ونشهد لحظات وصولهم، إلاّ أن ليزبوز هي التي تحتضن حقيقة أولى خطاهم نحو برّ الأمان، إن وصلوا.

تحمل مسيرة المخرج اليوناني يورغوس زيوس العديد من التناقضات، إذ درس الرياضيات التطبيقية والفيزياء النووية، لينتقل بعدها إلى دراسة السينما، ليبدأ مسيرته المهنيّة عام 2010 بفيلم “Casus Belli”، لتتالى بعده أفلامه التي شاركت في العديد من المهرجانات العالمية، وأشهرها “مقاطعة” الصادر عام 2015، والذي عرض للمرة الأول في مهرجان فينيسيا للسينما. هذا العام صدر لزويس فيلمه القصير “القارة الثامنة”، والذي يرسم فيه معالم مأساة بشريّة تدور أحداثها في جزيرة ليزبوز اليونانية، حيث يبحث الناجون عن احتمالات الحياة في القارة العجوز.

والفيلم الممتد لإحدى عشرة دقيقة يصنفه زويس على أنه تجريبي، إذ لا يتجاوز العشر لقطات، بلا أي حوار، يبدأ بمشهد للبحر، وقارب يأتي ليأخذ سترة نجاة منسية وسط المياه، بعدها نرى شخصا يقود شاحنة مليئة بستر النجاة التي جمعها من مساحة عشوائية تتكدّس فيها أكوام الستر، دون أي تعليق.

ونسمع صوت الرياح والشخص ذاته يتنقل بين الستر ويرمي ما جمعه منها دون أيّ كلمة، لتغيب الشمس بعدها فوق جبل الستر، وكلما اشتدت الظلمة، أزداد توهج إشعاع الأضواء العاكسة في الستر، لنراها ساكنة، لا أمواج تحركها ولا صرخات من يوشكون على الغرق، لينتهي الفيلم بعدها بمشهد لجبل يطل على البحر تنتصب عليه فزّاعة ترتدي سترة نجاة.

تكمن قسوة الفيلم في أنه يرسم التناقض الذي تحمله سترة النجاة، ما يمكن أن ينقذ حياة شخص يتحوّل إلى مجرد قمامة، آلاف الحياوات أنقذتها هذه الستر، أو لم تنقذها، وكأننا نقف وسط خراب ما بعد المأساة، فالفيلم أقرب لوثيقة تاريخية لخراب الإنسانية، ويمكن مقارنته بعمل الفنان الصيني أي وايواي الذي علّق ستر النجاة على أعمدة دار أوبرا في برلين، لكن الاختلاف أن

وأي وايواي زار هذه “القارة” وجمع أربعة عشر ألف سترة، لكن ماذا عن البقيّة، ستر أي وايواي لا ندري ما سيحل بها، لكن القارة باقية وتزداد اتساعا، بعكس أي وايواي لم يحرّك زويس أي سترة من مكانها، التقط فقط تضاريسها، وكأنه يسخر من محاولات الفنّ اليسارية والسياسية للتوعية باللاجئين ومعاناتهم، فزويس ترك الستر مكانها لتمتد إلى كل مكان، علّ البشريّة تغرق بذنوبها.

ينتابنا شعور يشبه الشللّ أمام الشاشة ونحن نتأمل الآلاف من ستر النجاة البرتقاليّة، وكأن كل واحد منا مذنب، بالرغم من الصمت الذي يعمّ الفيلم إلاّ أن صرخات النجاة وصور الواصلين محفورة في رؤوسنا، وكأننا أمام المطهر، حيث يخلع الواصلون أسباب الموت لتبدأ مسيرتهم نحو المجهول، جبال ستر النجاة أشبه بجغرافيات للألم، يقطعها شخص واحد فقط يضيف إليها كل يوم ما يجده من ستر، وكأنه الوحيد القادر على اختراق أرض المآسي هذه، أشبه بأسير في أرض الخراب هذه، أو عابر في مساحات ما بعد المأساة حيث لا صراع، لا دراما، مجرد صمت، أشبه بمسرحية عبثية لا يحصل فيها أي شيء.

ما الذي يمكن أن نفعله حقيقة كمشاهدين في البيوت أو في صالات السينما، ما الذي يمكن أن يوقف تراكم هذه الستر، وكأن الفزّاعة التي نراها نهاية ليست لإبعاد عابري البحر، بل تحدق بأعيننا نحن الناجين، تشير إلى عارنا، فنحن لم نخسر، لم نغرق، بل نجلس لنشاهد بصمت.

يقول مخرج “القارة الثامنة” في توصيفه للفيلم “مقبرة ستر النجاة هذه تشكل صرحا معاصرا يشهد على عبثيّة العالم، هي لا تمثل فقط نتائج هذه الهجرات الهائلة التي يشهدها القرن الحادي والعشرون، بل تلاحقنا بصور تحفر عميقا ضمن وجودنا وتحمل معنى كونيا للحياة يتجاوز الأخبار اليوميّة”.