أكدت دورة هذه السنة من «مهرجان كناوة وموسيقى العالم» بالصويرة، الذي وصل إلى محطته الـ16، أنه مهرجان الجذور والذاكرة، بعد أن اختار المنظمون أن يبرمجوا تكريما لثلاثة «معلمين» رحلوا بحر هذه السنة؛ يتعلق الأمر بمايسترو مجموعة «ناس الغيوان»، عبد الرحمن باكو، و«المعلم» الشريف الركراكي، و«المعلم» عبد الله غينيا، الذين سيكرمون بعد رحيلهم في مدينتهم الأم، الصويرة.. التفاتة أكدت، أيضا، أن موسيقى كناوة، كما نعرفها، اليوم، هي انعكاس لمعارف متجذرة؛ إذ على الرغم من رحيل الفنان تبقى مساهمته حاضرة تمتع السامع وتدعم الأجيال. وبقدر ما استعاد الجمهور قيمة وإبداعات غينيا والركراكي، فقد مثل حدث تكريم باكو فرصة لاستعادة تاريخ مجموعة «ناس الغيوان» الأسطورية، سواء على المستوى الفني أو تتالي رحيل نجوم من المجموعة على مدى تاريخها، إذ رحل بوجميع، أحد مؤسسي وأعمدة مجموعة «ناس الغيوان»، في بداية السبعينات، تاركا، في حلق محبيه وعشاقه، أكثر من غصة، قبل أن يرحل العربي باطما، تاركا مواويله وآهاته تتردد خلفه بصداها وحزنها، ليشكل رحيل باكو لبنة أخرى، في مسلسل أظهر حجم الفراغ المتتالي الذي تركه الراحلون. وتقديرا لقيمة وما قدمه باكو، اختار المنظمون أن يصعد أبناؤه إلى خشبة المسرح للتغني بالرجل والأب والفنان، مشنفين أسماع الجمهور الحاضر بباقة من أغاني «ناس الغيوان»، فكانت لحظة عاطفية قوية، للاحتفاء بصوت كانت له القدرة على شفاء الأرواح، هو الذي لم تكن آلة «الكمبري»، التي ظل يعزف عليها، مجرد آلة موسيقية، بل امتداد رمزي لجسده، إلى درجة أن جيمي هندريكس، أحد نجوم الموسيقى العالمية، لقبه بـ«طبيب الأرواح». كان باكو كناويا منذ الصغر، تتلمذ على يد كبار «معلمي» هذا الفن قبل أن يصبح «معلم» كناوة في 1964، ما مكنه من أن يدخل فن كناوة إلى قلب المجموعة الأسطورية، بنغماته وعباراته التي تبلورت نتيجة سنوات من الخبرة الموسيقية، الشيء الذي أعطى للمجموعة بعدا أفريقيا. وبالتالي فما كان يدين به باكو لـ«ناس الغيوان» كانت «ناس الغيوان» تدين له به؛ 80 أغنية، و26 شريطا غنائيا وخمس أغان ذهبية. وتأسست مجموعة «ناس الغيوان»، التي خلدت اسم وصوت باكو، في سبعينات القرن الماضي داخل الحي المحمدي، أحد أشهر الأحياء الشعبية بالدار البيضاء، وتميزت أعمالها بالمزج بين مختلف ألوان الموسيقى التقليدية المغربية، قبل أن تتحول إلى أسطورة في تاريخ الموسيقى والفن المغربي، بعد أن استطاعت أن تحفر اسمها في الذاكرة والوجدان وتثري المخزون الفني المغربي، من خلال تناول أغانيها لقضايا الإنسان وصراعه اليومي من أجل حياة أفضل وكرامة لا ترهنها الجغرافيات الضيقة ولا واقع الحال. وخضعت المجموعة، برأي المهتمين، لمحاولات تصنيف كثيرة، فاليسار المغربي، بمختلف ألوانه، حاول تبنيها، ودعاة الثورة والتغيير وجدوا في أغانيها شعارات تحريك مناسبة لآرائهم وتوجهاتهم السياسية، والنقاد مارسوا على كلمات وألحان المجموعة قراءات وتأويلات مختلفة وصلت أحيانا حدّ العسف وإخضاع مضامينها قسريا لتمثلات جاهزة، والمواطن البسيط انجر وراء الخطاب الفني «الغيواني» المرتكز على مكوني البساطة والعمق في المبنى والمغنى، عبر كلمات بسيطة موغلة في عمق التراث المغربي، وألحان اجتمعت فيها مختلف الأهازيج والألوان الموسيقية المغربية، مما سهل تحريكها لسواكن ومكنونات الجماهير التي أقبلت بكثافة على سهرات المجموعة واحتضنتها. وكان المخرج العالمي مارتن سكورسيزي قد تحدث، خلال إحدى زياراته لمدينة مراكش، للمشاركة في مهرجانها السينمائي، عن شريط «الحال» للمخرج المغربي أحمد المعنوني، الذي تناول سيرة المجموعة، وكيف أنه شكل مصدر إلهام بالنسبة إليه، حتى إنه وظّف موسيقى مجموعة «ناس الغيوان» في بعض أفلامه، متذكرا الصدفة التي قادته إلى التعرف على الفيلم والمجموعة، قبل سنوات، وذلك حين غالبه النوم ذات ليلة، فسهر مسافرا بين القنوات قبل أن يتوقف عند موسيقى المجموعة، التي أثارت إعجابه. وعلى الرغم من جديد الألفية الثالثة المفتوحة على كل ما لم يخطر على توقع، شاغلة الناس عبر تحولات المشهد الثقافي والفني، فإن كل ذلك لم يمنع عن أغاني «ناس الغيوان» توهجها وحضورها، مع وجود جمهور متعلق بالذاكرة والصوت المنبعث من أشرطة السبعينات والثمانينات، حيث أغاني «الحصادة» و«مهمومة» و«الصينية» و«صبرا وشاتيلا»، وغيرها. وقد لخص عمر السيد، أحد مؤسسي وأعمدة المجموعة، سر خلود الأغاني «الغيوانية» وشهرة المجموعة، قائلا: «لقد ظلت قوتنا تكمن في التواضع، وسر نجاحنا كان في الإخلاص والصدق ونكران الذات، وهذه أشياء قادت مسيرة أفراد (ناس الغيوان) عبر الزمان لأكثر من 40 عاما، وهو شيء يمكن الوقوف عليه في أسلوب الموسيقى والأدوات الأربعة؛ البندير والهجهوج والسنتير والدربوكة».