لا تزال الطبيعة تواصل تمردها وترسل إنذارات وتذيق الإنسان مرارات ومخاطر وتهديدات من صنع يديه بسبب ظاهرة التغير المناخى التى تحولت لتصبح الظاهرة الطبيعية الأكثر كارثية وقسوة، فالولايات المتحدة الأمريكية التى تسعى جاهدة فى ظل إدارة الرئيس "باراك أوباما" إلى الحد من مخاطر هذه الظاهرة عبر خطط وإجراءات متعددة، تعد من أكثر الدول الأكثر تضررًا خلال العام الجارى، حيث شهدت بعض أسوأ حرائق الغابات المميتة والجفاف المستمر والفيضانات العنيفة والمدمرة.وعلى سبيل المثال فقد شهدت ولاية كلورادو الفيضانات الأكثر قوة منذ ألف عام بعد أن سجلت الأمطار المتساقطة التى بدأت تهطل منذ يوم 11 سبتمبر الماضى سجلت ارتفاعًا بلع 17.17 بوصة (البوصة تساوى 2.45 سنتيمترًا)، وذلك مقارنة بارتفاع بلغ 9.59 بوصة فى سبتمبر عام 1995، وذكر مكتب إدارة الطورائ فى الولاية أن ثمانية أشخاص لقوا حتفهم جراء الفيضانات التى دمرت أيضًا أكثر من ألفى منزل ومائتى كليومترًا من الطرق العادية والطرق السريعة.وتشير إحصائيات المركز الوطنى الأمريكى للبيانات المناخية إلى أن عام 2012 كان العام الأكثر ارتفاعًا فى درجات الحرارة بالولايات المتحدة، إذ تم تسجيل 256 مرة ارتفعت فيها درجات الحرارة لأعلى الدرجات أو أنها تجاوزتها، وذكرت أن استمرار التغير المناخى والاحتباس الحرارى سوف يزيد من شدة الحرارة معظم أيام العام قريبًا.وتعد الفئات الضعيفة أو الفقيرة من سكان الولايات المتحدة هى الأكثر عرضة لمخاطر الإصابة بأمراض تنتج من سوء الأحوال الجوية وتلوث المياه، وخاصة من اللاتينيين، حيث تشير مراكز السيطرة على الكوارث فى الولايات الأمريكية المختلفة إلى أن 50% من اللاتينيين يعيشون فى ولايات ومناطق هى الأكثر انتهاكًا لمعايير وإجراءات تلوث البيئة، حيث تصل نسب الضرر لمستويات قياسية بسبب شدة حرارة الطقس وقلة الشمس وغياب الرياح، وهو ما يتسبب فى أن تسير ضربات القلب بشكل غير منتظم، وتكون الرئتان والمخ من الأعضاء الأكثر عرضة لخطر انتشار السموم فى الهواء والماء والبيئة المحيطة.وتؤكد الدكتورة "باديرا كارافيو" المتخصصة فى طب الأطفال ومديرة أحد البرامج الصحية فى "المؤسسة الوطنية للهسبانيك" بالولايات المتحدة، والتى اختارها البيت الأبيض لتكون "بطل التغيير"، إلى أن الضباب الدخانى الناتج عن تلوث الهواء والاحتباس الحرارى يتراكم حتى داخل الأدوية المصنعة فى أنحاء البلاد خصوصًا فى الأيام الحارة، وأن غرف الطوارئ والعناية المركزية أصبحت تستقبل بشكل متزايد حالات عديدة لأطفال وأمهات يعانون من مرض الربو، ولذا فإنها تحمل قضية مكافحة التغير المناخى وكأنها تحمل السلاح، لأن اختيارها من البيت الأبيض بهذا الوصف السابق كان نتاج عملها على حماية الأطفال ودعوتها المتكررة إلى مواجهة التغير المناخى بعد أن كانت لا تتخيل أنها ستعمل خارج البيت أو العيادة الطبية أو المدرسة.الإنسان والاحتباس الحرارى :وكان قد صدر الأسبوع الماضى بالسويد تقرير دولى قدمه الفريق الحكومى الدولى التابع لمنظمة الأمم المتحدة، والمعنى بظاهرة تغير المناخ، ويشير إلى تأكيد العلماء على أن 95% من مظاهر التغير المناخى منذ منتصف القرن العشرين، والتى سببها الأساسى الاحتباس الحرارى، هى من صنع البشر، وأن العقود الثلاثة الماضية كانت الأكثر بالنسبة لارتفاع درجات الحرارة وذلك منذ العام 1850.ويقدر معدو التقرير أنه من المحتمل أن تكون درجة حرارة الأرض قد ارتفعت بمقدار 1.5 درجة مئوية خلال الفترة من 185 إلى 1900، والأرجح أنها سترتفع بمقدار درجتين إضافيتين بنهاية القرن الحالى، وأن ارتفاع درجة حرارة المحيطات هى الأكثر زيادة نتيجة التغير المناخى، فهى تمتص أكثر من 90% من الطاقة المتراكمة بين عام 1971 وعام 2010، ولعل هذا ما يفسر تزايد الإعصارات والفيضانات.تجدر الإشارة إلى أن هذا التقرير أعده 850 عالمًا من 85 دولة، وأنه استغرق 3 سنوات من العمل، واستند إلى أكثر من 350 مؤلفًا وكتابًا ووثيقة صادرة من 34 دولة، وأنه قد تمت مراجعته من قبل ألف خبير بيئى.وبالعودة إلى الولايات المتحدة يلاحظ أن هذه الأضرار الناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحرارى باتت تستلزم المزيد من الجهود المحلية والدولية أيضًا، بل إنها أضحت محل اهتمام بالغ من الرأى العام الأمريكى خلال الآونة الأخيرة، إذ يمثل إعلان وكالة حماية البيئة الأمريكية يوم 20 سبتمبر الماضى عن وضع 20 معيارًا لمحطات الوقود الجديدة خطوة جوهرية فى سياق خطط إدارة أوباما لمكافحة التلوث والتغير المناخى، ذلك إلى جانب المعايير الاقتصادية الجديدة التى أدخلت فى عام 2011 من قبل الوكالة، والخاصة بالمركبات الخفيفة والثقيلة، وذلك للحد من انبعاثات الكربون من هذه المركبات التى تزيد سخونة الجو وتسبب أمراض الجهاز التنفسى.وبموجب مقترحات وكالة حماية البيئة المقدمة منذ عشرة أيام، فسوف يتم بناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء باستخدام التكنولوجيا النظيفة المتاحة للحد من تلوث وانبعاثات الكربون، وهى المقترحات التى وافق عليها 53% من الناخبين الأمريكيين، وفقًا لاستطلاع للرأى أجراه "تقرير راسموسين" ونشر يوم 27 سبتمبر الماضى، وذلك على الرغم من أن هذه المعايير سوف ترفع تكاليف الطاقة، وعارضها 33%، وثمة 14% لم يقرروا رأيهم بعد.ويوافق غالبية الأمريكيين بوجه عام- أى دون التطرق إلى معايير توضع بشكل خاص مثل المقترحات السابقة- على ضرورة تحديد إجراءات من قبل وكالة حماية البيئة لمكافحة التلوث، فوفقًا لمركز المناخ المستقل فى جورجتاون ومؤسسسة جورجتاون للسيسات العامة، ثمة أغلبية كاسحة تبلغ 87% يؤيد إجراءات الوكالة، حيث يوافق 78% من الجمهوريين و94% من الديمقراطيين.يذكر أن الولايات المتحدة كانت قد وضعت قبل سنوات- مع بدء ولاية أوباما الأولى- خطة لخفض الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحرارى بنسبة 17% بحلول عام 2020 مقارنة بعام 2000، وأن الوكالات والوزارات المعنية، بما فيها وزارة الخارجية مسؤولة التفاوض دوليًا حول ظاهرة التغير المناخى، سوف تقدم تفصيلاً حول التقدم فى تنفيذ هذه الخطة فى تقرير يعرف باسم "مشروع 2014"، ومع ذلك يمكن القول أن الأضرار المتزايدة التى تحيق بالولايات المتحدة جراء الفيضانات والجفاف والأعاصير وتلوث المياه والهواء فى الكثير من المناطق ربما يتطلب زيادة نسبة التخفيض السابقة لتصل إلى أكثر من 20% خلال نفس الفترة، وأن تقرير العلماء الدوليين الصادر مؤخرًا إنما يجب أن يدفع كافة الدول، لا سيما الأكثر تسببًا فى ظاهرة التغير المناخى مثل الصين والهند والولايات المتحدة إلى تكثيف الجهود مع الشركاء الدوليين الآخرين لإنقاذ كوكب الأرض.