بقلم - جمال المراغي
انتهبوا ـ والتحذير لكل من يهمه الأمر في مصر ـ فهناك من يراقب ويحلل ويفسر في شئوننا، حتي الثقافية منها، بل ويربطها بغيرها، وهذا ما عبرت عنه جريدة "ذي إيكونوميست" الاقتصادية البريطانية الأسبوعية التي قدرت معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأنه يمكنه أن يمهد لوحدة حقيقية كادت تتحقق خلال ستينات القرن الماضي ووسيلتها الفريدة هي اللهجة المصرية.
جاء في التقرير الذي عنوانه »صعود وهبوط اللهجة المصرية» ووُقع بتحرير الجريدة وأسند في بعض أجزاءه لأستاذ اللغة العربية بجامعة إدنبره »جوناثان فيثرستون»؛ إن عنوان معرض القاهرة الدولي للكتاب ـ وهو أكبر تجمع من نوعه في الوطن العربي »القوة الناعمة، كيف؟» وأختيار بعض الرموز ينبأ بأن المصريون يحاولون استعادة سطوتهم بسلاحهم القديم.
فمنذ أربعينيات القرن الماضي وبدون دوافع سياسية أو تجارية؛ جمعت مصر العرب حولها بفضل لهجتها التي انتشرت مع استحوذ السينما المصرية ونجومها أمثال فاتن حمامة ويوسف وهبي وأنور وجدي، ثم زاد هذا التأثير باهتمام الدولة وتمويلها للسينما بسخاء باعتبارها ثالث أكبر صناعة في العالم حينها، فكانت الحشود تبكي وتضحك معها من كازابلانكا إلي دمشق، وصوت أم كلثوم الذي كانت المحال التجارية تُغلق في أنحاء الوطن العربي من أجل الاستماع إلي حفلاتها الشهرية.
بدأ الأمر عفويا، ولكنه لم يستمر كذلك، فبعد أزمة قناة السويس عام 1956 أدركت الدولة المصرية قيمة اللهجة المصرية ودورها في الوحدة العروبية المنشودة، وكانت خطب جمال عبد الناصر دليلا واقعيا واضحا والتي كانت تبث عبر إذاعة صوت العرب، لهذا قام الرئيس المصري بإرسال بعثات إلي الجزائر وغيرها من الدول لتحريرهم من اللغات ومن ثم الثقافات الفرنسية وغيرها، وكانت اللهجة المصرية خير وسيلة، فتجد من يقبل بحماس علي دراسة اللغة العربية يتحدث بها.
وعندما توفي جمال عبد الناصر؛ كان الخطاب المصري الأكثر سهولة علي نطاق واسع في العالم العربي من المحيط الأطلسي إلي الخليج العربي، ولكن الفوضي التي ضربت مصر والمنطقة جعلت سطوة اللهجة المصرية تتراجع بشدة وتتهاوي معها فكرة الوحدة وامكانية تحقيقها، وخاصة بعد ظهور القنوات الفضائية التي أخذت تستخدم لهجات أخري، بل ولغات غير العربية حتي في نشراتها الإخبارية، ولم تعد اللهجة المصرية هي صوت العرب.
توسم المصريون في الانترنت خيرا، بعد تراجع السينما والغناء والتأثير السياسي والثقافي، وأن انتشار الانترنت ربما يدعم اللهجة المصرية، ولكنه بالمثل منح الفرصة لبقية اللهجات بنفس القدر وربما أكثر، وزاد من التشرذم انتشار اللهجات الشامية عبر أعمالها الدرامية التي حققت نجاحات ملحوظة مثل »باب الحارة»، وزاد الأمر سوء مع دبلجة الأعمال التركية والمكسيكية واللاتينية بل والأوروبية أيضا، وكذلك ظهور نعرات تتعلق باللهجات المحلية بالغرب العربي.
بعدما بدي أن الأمل يضمحل، فطن المسئولون في مصر إلي سلاحهم القديم، اللهجة المصرية، فكان عنوان معرض القاهرة الدولي للكتاب »القوي الناعمة» يصب في هذا الإطار ليكون المحور الرئيسي له وللعديد من مناقشاته التي تمس كل وسائل التواصل مع الشعب المصري ومع الآخر، كما اختاروا رمزوا للهجة المصرية وثقافتها أمثال »أحمد فؤاد نجم»، »سيد حجاب»، »زكريا الحجاوي» و»فؤاد حداد» ليكونوا وغيرهم جسرا لها عبر كُتاب الوطن العربي الذين مازال لديهم أيضا الأمل، ولهذا لم ينفكوا يتجمعون في محرابها بمعرض القاهرة كل عام.
تري هل كانوا يصبون لما أشار إليه التقرير عند أختيار العنوان وأسماء الرموز؟
نقلا عن الاخبار القاهرية