توقيت القاهرة المحلي 10:24:32 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السرطان السياسى (1 - 5)

  مصر اليوم -

السرطان السياسى 1  5

عمار علي حسن

لم يُخلق على هذه الأرض شر مستطير أكبر وأكثر من الاستبداد، فما إن يطل برأسه حتى ينهش جسد المجتمع وروحه بلا هوادة، ليهز البنيان، ويقوّض الأركان، ويترك وراءه خراباً فادحاً، وعوزاً قاهراً، وقهراً متغلباً، وهمماً فاترة ونفوساً حائرة، وحزناً دفيناً. والاستبداد هو أحد أشكال الحكم المطلق، الذى يركز القوة أو السلطة فى يد شخص واحد أو أيدى حزب واحد أو جماعة واحدة. وتعرّفه معاجم اللغة على أنه «الانفراد» و«الغلبة» و«الاغتصاب» و«الاحتكار» بما يخل بمبدأ المساواة الذى لا تستقيم الحياة من دونه، فإن أحيل الأمر إلى مجال السياسة كان هو الانفراد بإدارة شئون المجتمع من قِبل فرد أو مجموعة من دون بقية المواطنين. أو تجريد الأمر من الحق الذى يؤسسه، ويقيم بنيان الحكم والشرعية، فتتحول بذلك السلطة إلى سيطرة، وعلاقة الطاعة إلى إكراه وإذعان. ولا يعنى الاستبداد فى كل الأحوال انتهاك الحاكم للقانون، أو قيامه بتحويل أفعاله وتصرفاته هو إلى القانون، إذ إن أغلب المستبدين يصنعون أو يرعون القوانين التى يقهرون بها شعوبهم، بل قد يعملون على إيجاد نظام قانونى شامل، وفق شرعية أو مشروعية شكلية، يتيح لهم الانفراد بإدارة كل ما يتعلق بالمجتمع. كان الاستبداد، الذى يعود إلى الكلمة اليونانية «ديسبوتيس» التى وُلدت منها الكلمة الإنجليزية «Despot»، ولا يزال موضوعاً أثيراً لدى الباحثين فى شتى العلوم الإنسانية، بل هو السؤال المتجدد فى أذهان الناس بلا انقطاع، وهو المرض الذى لا تكف عدواه عن الانتشار، وضرره عن التوالد، وبشاعته عن التناسل والتوغل فى الأركان والأعطاف كافة. فهو لا يرتبط بالسلطة فى أعلى مراتبها، أى بما يقوله ويفعله الجالسون على العرش أو الكراسى الوثيرة العريضة الكبيرة، بل إنه يطاردنا فى جنبات الحياة الوسيعة بلا هوادة، وبقسوة ضارية. فالعامل قد يرى الاستبداد متجسداً أمامه فى سلوك صاحب العمل، وفى اللوائح التى تحكم العلاقة بين الطرفين وتهندسها بغلظة. والفلاح قد يلفاه فى صلف مهندس الرى أو موظف «الجمعية الزراعية» الذى يكلمه من طرف أنفه ويقرر ما يضنيه، ويجده الموظف فى تعنت رئيسه المباشر، ومديره العام، ورئيس مجلس الإدارة المسلح بصلاحيات مفرطة، وقد يقابله المشترى من بائع متجلف فى السوق، ولاعب من مدربه، وزوجة من زوجها المتغطرس، وابن من أبيه الذى يتصور أنه ما دام قد أنجبه فقد ملك كيانه ومصيره. ويتحدث العشاق عن استبداد الشوق والوله بهم، لا يستطيعون منه مهرباً ولا فكاكاً، وقد يستعذبون عذابه، ويستلذون باستحكامه، طواعية وعن طيب خاطر، وهذا هو الاستبداد الوحيد الذى لا يشكو منه الناس، وإن ضجوا منه عادوا إليه راغبين مرحبين. من أجل هذا يكون البشر دوماً نازعين إلى التحرر من قيود لا تنتهى، ما إن يفكوا واحداً حتى يجدوا الآخر، بلا نهاية ولا انقطاع، حتى لو كان مصدر الاستبداد هو الغرائز الجامحة، والرغبات الطافحة، والميل الدائم إلى تحصيل المزيد من القوة والثروة والجاه. ومن أجل هذا يقول الواقعيون إنه لا توجد حرية كاملة، ولا تحرر دائم، فالإنسان «خلق فى كبد» وسيظل كادحاً إلى ربه كدحاً حتى يلاقيه. وهناك محاولات لا تنتهى، نظرية وعملية، تطلب عدم الاستسلام بأى حال من الأحوال للاستبداد ومنتجيه وموزعيه، بل إن مقاومته ومواجهتهم فرض عين، وبقدر وجودها واستمرارها وقوة دفعها يكون وجود الإنسان، وانتصاره للحق والخير فى الحياة الدنيا، وانتظاره للجزاء فى الآخرة من رب العباد، الذى تنبئنا تعاليمه فى جوهرها الأصيل والدفين بأن وزر المظلوم الساكت على الظلم لا تقل عن وزر الظالم، وتجعل أن أعظم الجهاد هو «كلمة حق عند سلطان جائر». فى الغالب الأعم، جُبلت النفس الإنسانية على «الفجور» وكانت «التقوى» هى الاستثناء دوماً، وسعى الفجار، حين تغلبوا، إلى فرض إرادتهم على غيرهم، متحصنين بكل أسباب التجبر، وساعين إلى حرمان الآخرين من كل ما يمكنهم من نيل حقوقهم، والانتصار لحريتهم، وتعزيز كرامتهم. وبعض الذين أفرطوا فى الحديث عن «التقوى» و«خشية الله» نسوا كلامهم، وحنثوا بقسمهم، وخانوا عهودهم، بعد أن صدئت قلوبهم، حين جلسوا على كراسى الحكم طويلاً، فصارت أقوالهم عن العدل والرحمة حروفاً تطير فى الهواء، بينما بقيت أفعالهم عن الظلم والقسوة واقعاً يعانى منه الناس فوق التراب وأمام الريح. كما أن بعض الذين وعدوا شعوبهم بالعدل والحرية من خلال احترام القوانين والدساتير، تنصلوا من هذا، وعدلوا فى منظومة القوانين أو انتهكوها حين دانت لهم الأمور، وشعروا بالسيطرة التامة على مقاليدها. وطيلة القرون الغابرة والعالم لا يعرف من الحكم إلا المستبد، تارة باسم السماء، وتارة بفعل الوراثة أو العرق والسلالة، وأخرى بالتغلب والقهر، سواء بالجند أو العصبة، كما امتد تسويغ الاستبداد إلى ادعاء المستبدين بأنهم الأكثر علماً ومعرفة بصالح الجماعة، وأن العوام يفتقرون إلى الشروط الضرورية لممارسة الحكم وليست لديهم القدرة على فهم الدوافع التى تجعل الحاكم يتخذ القرار على نحو يرونه هم استبداداً بالأمر أو تنكيلاً بهم. وقد يدّعى المستبد أن شعبه ليس مؤهلاً بعد للديمقراطية، أو أن الظروف التى تمر بها الدولة، تفرض هذا النمط من الحكم. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى) نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السرطان السياسى 1  5 السرطان السياسى 1  5



GMT 04:09 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

شكراً إيران

GMT 04:06 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

عودة إلى «حرب الظل» بين إسرائيل وإيران!

GMT 04:03 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نيران المنطقة ومحاولة بعث التثوير

GMT 04:00 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

«منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود

GMT 03:50 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

ليبيا وتداول السلطة بين المبعوثين فقط

GMT 03:48 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأردن من أيلول الأسود لليوم

GMT 03:33 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

اكتشافات أثرية تحت المياه بالسعودية

GMT 03:21 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

«الإبادة» ليست أسمى

GMT 20:02 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم "عصابة المكس"
  مصر اليوم - أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم عصابة المكس

GMT 15:00 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 02:46 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم تشيلسي يرفض دعوة ساوثجيت لوديتي ألمانيا والبرازيل

GMT 03:35 2017 الجمعة ,09 حزيران / يونيو

سهر الصايغ تعرب عن سعادتها بنجاح مسلسل "الزيبق"

GMT 13:23 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

التنورة المحايدة تعطيك المجال الأوسع لإطلالة مختلفة

GMT 12:43 2021 الإثنين ,13 أيلول / سبتمبر

سيرين عبد النور تأسر القلوب بجمبسوت أنيق

GMT 00:46 2021 الثلاثاء ,03 آب / أغسطس

الحكومة تنتهي من مناقشة قانون رعاية المسنين

GMT 11:57 2021 الخميس ,10 حزيران / يونيو

مالك إنتر ميامي متفائل بتعاقد فريقه مع ميسي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon