توقيت القاهرة المحلي 23:18:24 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حدود «الخصوصية»!!

  مصر اليوم -

حدود «الخصوصية»

عمار على حسن

من نافلة القول: إن فكرة «الخصوصية» التى تُطرح الآن فى وجه «العولمة» ليست أمرا جديدا، وليست حيلة دفاعية من أجل الذود عن «الهوية» أو «الذات الحضارية» بقدر ما هى حاجة أصيلة إلى التميز، ورفض قاطع لتماهى الذات فى الآخر، أو مسخ النفس لحساب الغير، أو الاكتفاء بالتقليد، والرضا بالعيش فى الهامش البارد، دون أى طموح للتفاعل الخلاق مع العالم، من أدناه إلى أقصاه. لكن الخصوصية ليست فكرة متفقا عليها؛ فرغم أصالتها وحيويتها، فإن مساحة الحركة داخلها شاسعة إلى حد التناقض التام بين معتنقيها، أو المنافحين عنها، المتحمسين لها، وبين رافضيها جملة وتفصيلا، ممن يؤمنون بأن العالم صار «قرية عالمية» من الضرورى أن يذوب الجميع فيها، ليس فى مجال التقنيات فحسب، بل أيضا فى فضاء القيم والمعانى الإنسانية. والأكثر إثارة للجدل أن المؤمنين بالخصوصية ليسوا على عقل وقلب رجل واحد فى التعامل معها، بل إن بينهم أيضا اختلافات تصل إلى حافة التناقض فى بعض الأحيان. فهناك من يتعامل مع المسألة بصرامة وحدة؛ إذ لا يريد أن يتفاعل أو يستفيد مما لدى الآخر، وإن وجد نفسه منساقا بحكم الواقع إلى الاستعانة أو الاسترشاد بما لدى «الغرب» مثلا، فلا يعدو هذا بالنسبة له أن يكون «بضاعتنا ورُدَّت إلينا»، فى إحالة إلى العطاء الغزير الذى منحته الحضارة الإسلامية فى أيامها الزاهرة إلى الغرب. وعلى الطرف الآخر، هناك من يؤمن بتلاقح الحضارات، ويعتقد اعتقادا راسخا أن المسلمين بحاجة ماسة إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من عطاء، فى مختلف المجالات، التقنية والإنسانية، باعتبار «الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها». على هذين الطريقين، يقف الخطاب الإسلامى بشتى أطيافه من فكرة الخصوصية، موزعا بين اتجاهين، الأول يتمثل فى نظرة رحبة للخصوصية، لا ترى أى غضاضة فى المزاوجة بين ما لدينا وما يأتينا من الخارج، بشرط أن تكون النسبة الغالبة مما هو عندنا، وأن يشكل هذا القاعدة التى نبنى فوقها، والجدار الذى نستند عليه. أما الثانى فينظر إليها باعتبارها نهجا مكتفيا بذاته، لديه اكتمال نظرى وقدرة على تلبية كل ما يتطلبه الواقع من حلول للمشكلات التى تفرض نفسها، آنيا ومستقبليا.ومن ثم يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء أطر نظرية وعملية تلبى احتياجات الواقع، ويأملون بها أن يرمموا الشروخ الواسعة التى حدثت نتيجة ما يسمونه التغريب، أو الابتعاد عن الإسلام. وأنتجت عملية البناء والترميم هذه رؤى عريضة لأسلمة شتى دروب الحياة. فهناك «الاقتصاد الإسلامى» و«القانون الإسلامى»، وهناك «إسلامية المعرفة» ومحاولة لبناء «علم اجتماع إسلامى» و«علم سياسة شرعى» فى جوانبه النظرية والإجرائية، و«علاقات دولية إسلامية»، و«فن إسلامى»، ونزولا من هذه التصورات الكلية والأساسية، هناك محاولة لأسلمة تفاصيل صغيرة جدا فى الحياة اليومية للفرد، مثل المأكل والمشرب والملبس وطرق الترفيه ونبرة الكلام والضحك، وما يجرى فى المناسبات الاجتماعية كافة، وفى مقدمتها حفلات الزفاف والمآتم... إلخ. وفى هذا السياق، يُضيِّق البعض من «الخصوصية» إلى درجة تجعل منها قفصا حديديا يحيط بالفرد من كل جانب، ويكاد يخنقه، أو نوعا من «الوسواس القهرى» الذى يطارد الإنسان فى صحوه ومنامه، ويجعله يشعر بالذنب الدائم، والتقصير المستمر. ومثل هؤلاء يختلط لديهم العقدى الثابت بالاجتماعى المتغير، ويحمّلون الدين أحيانا فوق طاقته، أو أكثر مما يطلبه الدين نفسه، فى حضه على الفضيلة، ومقاومته للرذيلة. إن المطلوب هو أن تكون الخصوصية سلاحا حقيقيا فى وجه تجبر العولمة، وشعورها الزائف بالقدرة على صهر البشرية جمعاء فى بوتقة واحدة، أو تحويل الناس إلى أنماط متشابهة، بل متماثلة، تفكر بطريقة واحدة، وتعتنق ثقافة واحدة، وتعيش بأسلوب واحد. وهذا السلاح لا يقوم بجلد الذات، وإغلاق الباب أمام كل ما يرد من «الآخر»، بل يقوم على هضم كل ما لدى الآخرين من إمكانات، وتطويعها لخدمة المصلحة العامة للمسلمين، وهذا ما كان يجرى فى الأيام الزاهرة للحضارة الإسلامية؛ حيث نشطت حركة الترجمة، واستفاد فلاسفة المسلمين مما تركته القريحة اليونانية، واستفاد العرب من طريقة بناء الفرس والروم للهياكل والمؤسسات السياسية، ونهل المسلمون جميعا مما كان لدى البشر وقتها من تقدم فى الطب والهندسة، فحازوا بذلك مقدرة على قيادة من على الأرض جميعا، قرونا طويلة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حدود «الخصوصية» حدود «الخصوصية»



GMT 21:26 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي.. آلة الزيف الانتخابي

GMT 21:24 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

فلسطين بين دماء الشهداء وأنصار السلام

GMT 21:06 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الشكلانية والتثعبن

GMT 19:52 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

في حب العمدة صلاح السعدني

GMT 19:50 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

‎فيتو أمريكى ضد الدولة الفلسطينية.. لا جديد

GMT 04:56 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

المستفيد الأول إسرائيل لا إيران

GMT 04:15 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الغضب الساطع آتٍ..

GMT 04:13 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

جبر الخواطر.. وطحنها!

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:00 2024 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

القمر في منزلك الثامن يدفعك لتحقق مكاسب وفوائد

GMT 11:11 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

قمة "كوكب واحد" تكرس ماكرون رئيسًا لـ"معركة المناخ"

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 16:21 2021 الجمعة ,11 حزيران / يونيو

ليفربول يودع جورجينيو فينالدوم برسالة مؤثرة

GMT 10:19 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

3 قلوب ينبض بها عطر "أورا" الجديد من "موغلر"

GMT 09:59 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

مجدي بدران ينصح مرضى حساسية الأنف بعدم الخروج من المنزل

GMT 03:10 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

صناعة الجلود في المغرب أصالة تبقى مع مرور السنوات
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon