توقيت القاهرة المحلي 03:53:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

غرفة أبى (1-2)

  مصر اليوم -

غرفة أبى 12

عمار علي حسن

من ضلع أبيه، وفى غرفته، جلس الكاتب والأديب اللبنانى الأستاذ «عبده وازن» ملفوفاً فى العتمة الرائقة يفتش فى ذكريات غاربة، ويستدعى كل ما يضنيه على مهل، كى ينسج منه عملاً أدبياً لافتاً، ينعته هو بأنه «رواية سيرة ذاتية»، يرسم فيه ملامح تجربة عميقة، جديرة بالتأمل، مُشبعة فى جمالها، ومُدهشة فى تكوينها، ومُختلفة فى سمتها، ومُثمرة فى مضمونها العامر بالمعارف والأحوال والأماكن والأشخاص والصور والمواقف النفسية المتأرجحة بين هدوء ناعم وصخب جارح، وتساؤلات لا تشفى إجاباتها الغليل، ولا تقيل العثرة، ولا تبدد الحيرة المقيمة كالقدر. ومنذ قراءتى لكتابَى «ذاكرة للنسيان» لمحمود درويش و«رأيت رام الله» لمريد البرغوثى لم أستمتع بنص سردى خارج التصنيف بمستوى كتاب «غرفة أبى» الذى يختلط فيه السرد بالأفكار، ليتماهى كاتبه أو يتوحد مع أشباهه، أو من ظنهم كذلك، من أدباء وعلماء وفلاسفة كثر، فى الشرق والغرب، يفتش فى ثنايا سطورهم عن كل الحبال السُرية القديمة المتجددة التى تربطهم بآبائهم، قساة غلاظ القلب كانوا، أو رحماء يتقاطر الامتنان والعطف من عيونهم التى تذبل بمرور السنين. ويعبّر وازن بشكل صريح عن هذا فى ثنايا نصه إذ يقول: «لطالما أحببت التلصص إن أمكننى القول، على صور الآباء، فى الروايات والأفلام والمذكرات والسير الذاتية، السير هذه بخاصة. هل كان هذا ناجماً عن نقص فى شخصى؟ أم عن قلق يفتك بى سراً؟». وفى ثقافتنا العربية أخذت كتابة السير الذاتية أشكالاً عدة، فهناك اليوميات المسجلة تباعاً، فى محاكاة لما كان يكتبه المؤرخون القدامى عن السلاطين وعلية القوم، وهناك السير المكتوبة سرداً وهى الأغزر إنتاجاً، لكنها ليست رواية لأن مساحة المتخيل فيها منعدمة، ومنها الذى يخفى كاتبها الكثير من أسراره الخاصة مثل «الأيام» لطه حسين، و«أوراق العمر» للويس عوض، أو يعرى كل شىء مثلما فعل سهيل إدريس فى سيرته. وهناك صيغة ابتكرها نجيب محفوظ فى «أصداء السيرة الذاتية» حيت الأقاصيص المتوالية التى تغطى مشوار العمر كله. وهناك من فضّل أن يكتب سيرتين متوازيتين مثل زكى نجيب محمود فى «قصة نفس» و«قصة عقل». أما عبده وازن فقد اختار شكلاً مغايراً، ألا وهو كتابة السيرة الذاتية فى ثوب رواية، بحيث يفتح باباً للمتخيل، الذى يردم به ما لا يعرفه، ويفتح نوافذ عدة لـ«التوالد الحكائى» الذى يتناسل من صلب العمل أو يشع من «بؤرته المركزية» وينثال فى ثنايا ما أبدعه، مضيفاً إليه، أو موسعاً إياه فى فجاج ودروب مختلفة، وفى الوقت ذاته يتبع «هندسة الكتابة» التى تمنحها إيانا الرواية ويعجز غيرها عن الإتيان بها. فى هذه «السيرة الروائية» ربما أراد وازن أن يبحث فى غرفة أبيه عن الأمان الذى افتقده فى رحلة الغربة سعياً وراء الرزق، وتداعيات الحرب الأهلية التى لطمت وجه لبنان الجميل، وتصاريف الحياة الصعبة وأوجاع الزمن الذى يتسرب من بين أصابعه، ولهذا اختار مفتتحاً لروايته تلك من أقوال الفيلسوف والشاعر الألمانى نوفاليس: «لا يشعر الفتى بالأمان إلا فى غرفة أبيه». وربما كان يبحث، فى نفسه وحياته، أو المسارب المتعرجة التى سلكها فى رحلة حياته بعد أن وصل إلى الثانية والخمسين من عمره، عن أبيه، الذى مات فى الثامنة والأربعين، بعد أن صار الابن أكبر من الأب، وحامل جيناته وبعض طباعه، مستلهماً فى هذا ما قاله الفيلسوف الألمانى فردريك نيتشه: «الصامت فى الأب، ناطق فى الابن، ولطالما فى الابن سر للأب، مكشوف النقاب». ويضعنا وازن فى لحظة البداية، حين قرر أن يكتب هذا العمل، وهو أيضاً استهلاله، إذ يقول: «كنت أتصفح دفاترى القديمة التى اعتدت العودة إليها مرات فى العام، مسترجعاً ذكريات لعلها الأحب إلىّ». ورغم أنه لا يتذكر تاريخ وفاة أبيه، ولا يستقر فى رأسه منه سوى أنه «لفظ أنفاسه عند الغروب» إلا أنه يستعيد كل شىء يخصه، غير مكتفٍ بطرحه كما جرى فى الواقع، إنما يسائله طيلة الوقت، ويحاول أن يصل إلى أعماقه النفسية البعيدة، ويتخيل الجوانب التى غابت عنه، أو ضاعت من الذاكرة، وهو فى الحقيقة يتخذ من الأب طريقاً لمعرفه ذاته، وهو ما يدل عليه قوله فى المقطع قبل الأخير: «لا أعلم ماذا علىّ أن أكتب إليك أيها الأب، ماذا علىّ أن أكتب عنك. إننى أكتب لنفسى، أستعيد ماضىّ الذى كان جزءاً من حاضرك لأتذكرك». ويعيد الموقف ذاته فى موضع آخر: «إننى أخاطبك وكأننى أخاطب نفسى». وهذا إن كان كاشفاً لجانب مما كتبه وازن فى عمله هذا، فإنه يبين أن سرده، الذى خضع فى أغلبه لقانون «تداعى المعانى» أو البوح الحر الذى يتحرك بلا قيود فى الزمان والمكان، لم يقطع بشىء، ولا يريد أن يصدر أحكاماً نهائية حول «صورة الأب» أو بالأحرى «صورة الابن» المضمرة المتوارية بين السطور، أو تلك الظاهرة عياناً بياناً فى مجمل الكتاب. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى). نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

غرفة أبى 12 غرفة أبى 12



GMT 03:53 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الأهرامات مقبرة «الرابرز»!!

GMT 03:51 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الشعوب «المختارة»

GMT 03:49 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

اللاجئون إلى رواندا عبر بريطانيا

GMT 03:48 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

المقاومة الشعبية والمسلحة

GMT 03:38 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

خطر تحت أقدامنا

GMT 03:35 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

عصر الكبار!

GMT 03:33 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

بشارة يخترع نفسه في (مالمو)

GMT 03:30 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الغواية وصعوبة الرفض!

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:33 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
  مصر اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن شِقو يكشف سراً عن كندة علوش

GMT 06:52 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

نظام غذائي يقضي على التهاب المفاصل بأطعمة متوافرة

GMT 03:14 2021 الجمعة ,03 أيلول / سبتمبر

شيرين رضا تنتقد التبذير في جهاز العرائس

GMT 14:30 2021 الأحد ,04 إبريل / نيسان

"مايكروسوفت" تؤجل إعادة فتح مكاتبها بالكامل
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon