توقيت القاهرة المحلي 21:54:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لغة أكاديمية مفهومة (1-2)

  مصر اليوم -

لغة أكاديمية مفهومة 12

عمار علي حسن

من الأمور التى ترد على خاطرى دوما، ذلك الحديث السريع والخافت الذى أدرته ذات مرة مع بعض أساتذتى عن نفور القراء والمقبلين على المعرفة من مصطلحات الأكاديميين ولغتهم التى ينسجون منها عبارات جافة بلا روح، أو مستغلقة على الأفهام. تساءلت يومها تساؤل تلميذ يريد أن يعرف لا أن يفرض رأيا أو توجها، أو يبدى تبرما من مسلك ما فى طرح الأفكار وتناول المعارف الإنسانية، وكان الرد موجزا وقاطعا من أغلبهم ودار جله حول ضرورة أن تكون لدينا لغة للبحث الأكاديمى، تختلف عن الكتابات الأخرى التى تفتقد إلى التحديد والصرامة التى يوجبهما العلم، ويجود بها علينا الكتاب الصحفيون والأدباء ومن لف لفهم، حيث تختلط لدى الأغلبية منهم المفاهيم والمعانى وترتبك إلى أقصى حد، وأبعد مدى، وتقع أحيانا خارج التفكير العلمى، الذى له شروط يتعارف عليها العلماء فى مشارق الأرض ومغاربها. واستقبلت هذا الرأى باحترام يتناسب مع تقديرى لمن أدلوا به، لكن ظل فى نفسى شىء من عدم الارتياح له، راح ينمو بمرور الأيام وتوالى القراءات، حيث وجدت أن كثيرا من الكتب التى أحدثت نقلة فى حياة البشر، ونهضة فى تاريخ الإنسانية، وتركت علامات قوية لا يمحوها الزمن، وظلت حية يتم تداولها رغم تقدم الزمان وتبدل الأمكنة، كانت مكتوبة بلغة فياضة، تشد النفس، وتوقظ المشاعر، فى حين تحفر فى العقل معانى ومفاهيم وقيما عميقة. وكلما أوغلت راحلا فى صفحات هذه الكتب، ثار داخلى سؤال آخر حول جدوى أن تكون العلوم الإنسانية بلا إنسانية. أى لا تتعامل مع الإنسان بوصفه روحا ومادة يزاوج بين العقل والمشاعر، ويحمل بين جنبيه إرادة الاختيار وملكة التذوق. وراح هذا التصور يكبر فى نفسى رويدا رويدا حتى استقر فى يقينى وبات اقتناعا راسخا، لا يحلق فى فراغ، إنما ينبنى على عدة معايير قابلة للزيادة، سواء لدىّ أو لدى كل من يميل إلى هذا الرأى، أولها أن طبيعة الأمور واستقامتها تفرض على الجامعات فى كل مكان أن تشتبك مع قضايا المجتمع، ليس لتحقيق ما على عاتقها من دور تنموى فحسب، بل أيضاً لتعزيز قدراتها العلمية بتجديد مناهجها ونظرياتها. فالنظريات الكبرى فى العلوم الإنسانية انبثقت من الإمعان والتدقيق فى سلوكيات البشر وحركاتهم وتصرفاتهم وأشواقهم وأحلامهم التى يزخر بها الواقع المعيش. وثانيها أن الظواهر الإنسانية متشابكة إلى أقصى حد، ولا يمكن الوقوف عليها وقوفا صحيحا إلا إذا تم تحليلها إلى عناصرها الأولية، أو تفكيكها إلى ما تنطوى عليه من مكونات سواء أساسية أم ثانوية. ومن بين هذه العناصر والمكونات ما يتعلق بالجانب الروحى، الذى يفيض بالمعتقدات والمشاعر والإيمان بالرموز، وهذا الشق الإنسانى لا يمكن التعبير عنه بلغة جافة تفتقد الحس وتفتقر إلى البساطة والوضوح. أما ثالثها فإن القارئ يتفاعل مع أى «نص» أو «مكتوب» ويفهمه ليس كما يريد صاحبه بالضبط، بل أيضاً حسب ما تجود به ثقافة هذا القارئ وميوله وخلفيته التعليمية والطبقية والدينية، بحيث ينتج هو نصه الخاص على هامش النص الأصلى. وهذا يجعل لدينا فى نهاية المطاف نصوصا أو أشباهها بعدد من قرأوا ما هو مكتوب. وبالتالى فإن الحديث عن صرامة لغوية فى البحوث والدراسات الإنسانية أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فمهما كانت هناك تدابير يتبعها الباحثون كى تخرج العبارات دقيقة لتصف الحالة أو الظاهر كما ينبغى لها، فإن هذا لن يمنع القارئ من تلقى هذا الوصف بالطريقة التى تحلو له، ويتسع هذا التلقى وتزيد مساحة التأويل والتفسير والتخمين والتكهن كلما كان النص معقدا وجافا. والرابع هو أن التعقيد لا يعنى بالضرورة الضبط العلمى، كما أن سهولة العرض لا تعنى فى الوقت ذاته الخروج عن مسار العلم ومقتضياته. كل ما فى الأمر أن الباحث مطالب بألا يستعمل لغة عامة «حمالة أوجه» أو عبارات إنشائية غارقة فى البلاغة إلى الدرجة التى تلفت فيه الانتباه لذاتها، وتصبح الكتابة لديه مجرد تشكيل جمالى للغة، لأن هذه هى مهمة الأدب وفنونه عموما وليس العلم. وما هو مطلوب هنا أن تكون اللغة جلية ورشيقة ومنضبطة فى آن، بحيث تعبر عن صميم الظاهرة، وترسم ملامحها بدقة، لكنها لا تنفر القارئ منها، ولا تجعله يشعر أن الباحث والدارس قد كتب ما كتبه لنفسه أو حفنة صغيرة من زملائه الأكاديميين داخل أسوار المعاهد والجامعات. (ونكمل غدا إن شاء الله تعالى) نقلاً عن "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لغة أكاديمية مفهومة 12 لغة أكاديمية مفهومة 12



GMT 20:48 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

معركة الاتحاد غير العادلة

GMT 20:42 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

المخادعون

GMT 20:41 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نجيب محفوظ نجم معرض أبوظبي للكتاب

GMT 20:40 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

«النتيتة» والصواريخ وفيتامينات الشرح

GMT 20:39 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

من هم العلماء؟!

GMT 05:21 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

سوف يكون يوماً فظيعاً

GMT 05:15 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

مِحنُ الهلال الخصيب وفِتَنه

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
  مصر اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 19:13 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

دينا فؤاد تعلن شرطها للعودة إلى السينما
  مصر اليوم - دينا فؤاد تعلن شرطها للعودة إلى السينما

GMT 19:04 2022 الخميس ,03 آذار/ مارس

تأهيل الحكومة الرقمية من أجل التنمية

GMT 11:04 2021 الإثنين ,25 كانون الثاني / يناير

"فورد" تستدعى 5234 سيارة فى الصين لمخاطر تتعلق بالسلامة

GMT 03:05 2024 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

5 ملايين زائر لمعرض القاهرة الدولي للكتاب

GMT 05:32 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دول غرب أفريقيا تتخذ إجراءات جديدة لإنقاذ الغابات

GMT 18:11 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

عودة ميسي ووصول لاعبو البارسا لمواجهة رايو فاليكانو الليلة

GMT 04:18 2020 الثلاثاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

"بي بي" تؤكد بدء إنتاج 50 مليون قدم من الغاز في مصر

GMT 16:41 2018 الخميس ,26 تموز / يوليو

كشف ملابسات مقتل سيدة بمنزلها ذبحًا في دمياط

GMT 08:52 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

5 أطعمة مهمة تساعدك في علاج الأرق المزعج

GMT 09:17 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

التناقض عنوان المجموعة الشتوية الجديدة لزياد نكد

GMT 11:42 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

عطر guess seducriv I am yours لإطلالة غامضة ومغرية

GMT 23:10 2016 الأربعاء ,01 حزيران / يونيو

مطار سوهاج يُجري تجربة طواريء لطائرة منكوبة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon