توقيت القاهرة المحلي 03:55:04 آخر تحديث
  مصر اليوم -

لا تيأس

  مصر اليوم -

لا تيأس

عمار علي حسن

فبعد العسر يسر، والليل إن زادت ظلمته اقترب النور، والمتجبر إن فاض ظلمه أذنت ساعة رحيله، والرزق وإن تأخر فلا يمكن أن يضيع، والله قد يجمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا، والخير باقٍ فى الأرض طالما بقى القمح والملح والورع والرحمة، والجمال باقٍ طالما هب النسيم وفاح الورد وشقشقت العصافير وطلت علينا الوجوه الحسنة، والتغيير آتٍ طالما بقى على الأرض من يقول «لا» حتى ولو فى سره الدفين، وطالما بقى الأمل فى أن الدم يمكن أن ينتصر على السيف، وأن الشعب إن أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. لا تيأس.. وتذكر الشاعر التركى ناظم حكمت الذى كان ينشد من قعر زنزانته الضيقة المظلمة: «أجمل يوم لم أعشه بعد، وأروع قصيدة لم أكتبها بعد». واعرف أن الروائى الإيطالى ألبرتو مورافيا كتب أبدع رواياته وهو نائم على سريره لا يبرحه من فرط المرض. والموسيقار الخالد بيتهوفن لم يعزف أعظم ألحانه إلا بعد أن أصابه الصمم. ولم يمنع العمى طه حسين من أن يكون ما أراد مفكراً عميقاً وعميداً للأدب العربى ومناضلاً ووزيراً. ولم يستسلم العقاد لخروجه مبكراً من التعليم بل عكف على عقله يثقفه وعلى إرادته يقويها حتى صار «عملاق الفكر العربى الحديث». ولم يمنع النفى والتشرد بيرم التونسى من أن يكون واحداً من أعظم شعراء العامية فى تاريخنا الثقافى كله. واستغل أحمد فؤاد نجم فترة السجن فى تعلم القراءة والكتابة فصار رديفاً لبيرم. والشاعر شارلز لامب لم يرسل أخته إلى مصحة عقلية حين عاد ذات يوم ووجدها قد ذبحت أمها بسكين فى نوبة جنون، بل احتضنها وجعلها تشاركه نشاطه الأدبى، حتى خرجت من جنونها، وصار هو شاعراً عظيماً. لا تيأس.. فالرمد الربيعى الذى أصاب نجيب محفوظ وحرمه من القراءة والكتابة لستة أشهر من السنة، لم يمنعه من أن يواصل عطاءه حتى صار الأغزر والأعمق فى مسيرة الرواية العربية وواحداً من أعظم أدباء العالم بأسره، ولما طُعن وشُلّت يمينه عاد ليكتب من جديد، خطاً ركيكاً، ككتابة الأطفال، لكنه أبدع به «أحلام فترة النقاهة»، فلما عجز تماما عن الكتابة، كان يبدع مقطوعات هذا العمل الخالد فى ذهنه أولا، ويحفظه، ثم يمليه، وهكذا حتى فاضت روحه دون أن ينقطع عطاؤه. وداء النقرس الذى أصاب الرسام الفرنسى الشهير فرنوار لم يمنعه من مواصلة الرسم، بعد أن استعان بشخص كان يربط له الفرشاة فى يده. وأعاد الأديب الروسى الكبير ليو تولستوى كتابة رائعته «الحرب والسلام» سبع مرات على ضخامتها، وعندما سئل إسحاق نيوتن عن سر توصله إلى نظرياته العلمية العظيمة قال: «لا أترك المسألة تغيب عن عقلى أبداً». لا تيأس.. ولا تعتقد أن الوقت قد انقضى وأحلامك قد غربت، فبوسعك أن تفعل ما تريد ما دمت تتنفس، ومهما كان حجم الظلم الذى يثقل كاهلك والقهر الذى يجثم على كتفيك فبإمكانك أن تقيم ظهرك، وتحقق ذاتك حتى ولو غزا الشيب مفرقك؛ فها هو الفيلسوف الألمانى الشهير شوبنهور لم ييأس من انفضاض الجمهور عنه لحساب أستاذه هيجل، بل واصل عطاءه حتى انجذب إليه الناس، وصار عظيما مثل معلمه. والروائى الإنجليزى الشهير سومرست موم لم يكتشف موهبته إلا متأخرا، وظل سنوات طويلة يعمل طبيبا، حتى ساق له القدر أديباً كبيراً قصده كطبيب فخرج من عنده موقناً بأن موم لديه موهبة أدبية عالية، فنصحه أن يترك الطب ويتفرغ للأدب، وعمل بالنصيحة فصار هذا الروائى العبقرى. وجمال حمدان لم يستسلم للظلم الذى وقع عليه فى الجامعة، حين تم ترقية من هو أدنى منه، بل انسحب إلى بيته صامتاً، ليواصل البحث والدرس، ويخرج على الناس بكتبه العميقة وعمله الرائع «شخصية مصر»، ويصير فى النهاية أعظم وأشهر ممن ظلموه. والأثرى الكبير سليم حسن تم نقله إلى وظيفة هامشية بعد أن كان مدير المتحف المصرى، فوجدها فرصة ليعود إلى البحث وينتج موسوعة أثرية ويقول فى مطلعها: «إلى الذين أرادوا أن يسيئوا إلىّ فأحسنوا إلىّ». والأديب الأرجنتينى خورخى بورخيس كتب أعظم أعماله وهو مبعد عن وظيفته. وأبدع البارودى أعظم قصائده فى المنفى. والعالم مكتظ بأسماء أثرياء بدءوا من الصفر، وغيرهم أفلسوا ثم عوضوا خسارتهم وصاروا أفضل مما كانوا عليه. لا تيأس.. فجيش المسلمين انتصر على المشركين فى موقعة بدر رغم أنه كان أقل عددا وعدة. وخالد بن الوليد هزم الروم فى معركة اليرموك بقوة أقل من عشر قوتهم. والبطل الإغريقى ليونيداس استطاع برفقة ثلاثمائة رجل أن يعيق تقدم جيش الفرس الجرار من ممر ترموييل حتى سقط ورفاقه بعد أن قتلوا أضعاف عددهم، ومهدوا الطريق لبلد صغير هو إسبرطة كى ينتصر فى النهاية على إمبراطورية الفرس القوية. وبضعة آلاف من مقاتلى حزب الله تمكنوا من هزيمة الجيش الإسرائيلى المتغطرس. وقبله استطاع أطفال فلسطين أن يتصدوا للدبابات والبنادق بكومات من حجر، ويحققوا نصراً استراتيجياً على عدوهم المدجج بالسلاح. لا تيأس.. ولا تقنط، فرحمة الله واسعة، وجنته تسع كل الطيبين، ومهما ثقلت الآثام فسبحانه غافر الذنب وقابل التوب، ومهما عظمت الخطايا فلا يمكنها أن تطمر الغفران، وليس بوسعها أن تنسينا أن الله أحن علينا من أمهاتنا، وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد. نقلاً عن جريدة "الوطن"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لا تيأس لا تيأس



GMT 03:47 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

.. والكاذب تفضحه عيونه.. «عن كل الحشاشين»

GMT 03:45 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

هجمات العراق وإيران

GMT 03:43 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

.. وانكشفت اللعبة الأمريكية

GMT 03:42 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

«حوارٌ مع صديقي المتطرف».. في «علمانيون»

GMT 03:40 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

سنتي مليونير!!

GMT 03:38 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

ريادة أعمال دينية!

GMT 03:33 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

في ذكرى ابن رشد

GMT 03:31 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

قائمة شندلر

هيفاء وهبي بإطلالات باريسية جذّابة خلال رحلتها لفرنسا

القاهرة - مصر اليوم
  مصر اليوم - موناكو وجهة سياحية مُميّزة لعشاق الطبيعة والتاريخ

GMT 00:01 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نيقولا معوض بطل النسخة العربية لمسلسل امرأة
  مصر اليوم - نيقولا معوض بطل النسخة العربية لمسلسل امرأة

GMT 00:48 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

محمد رمضان يتصدر مؤشرات محرك البحث "غوغل"

GMT 23:26 2020 الجمعة ,17 إبريل / نيسان

السنغال تُسجل 21 إصابة جديدة بفيروس كورونا

GMT 11:27 2020 الإثنين ,02 آذار/ مارس

مجلة دبلوماسية تهدى درع تكريم لسارة السهيل

GMT 12:58 2019 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

خطوات تضمن لكٍ الحصول على بشرة صافية خالية من الشعر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon