توقيت القاهرة المحلي 10:41:22 آخر تحديث
  مصر اليوم -

.. هكذا، اجتزت "عام أبي"

  مصر اليوم -

 هكذا، اجتزت عام أبي

حسن البطل

انبطحت أرضاً، كما يبطحون من تضربه نوبة صرع فجائية (تقدّم العلاج الوقائي، فلم نعد نرى المصروع على قارعة الشوارع .. كأنه يختنق، أرضاً، كما يختنق المشنوق مدندلاً بحبل). بطحتني السيارة أرضاً: الجذع على الاسفلت، ونصف الجسد الآخر على التراب. أخذ جسدي وضع الذي ينشلونه من الغرق، أو دخان الحريق. لم يكن هناك ماء ولا دخان، كانت هناك رائحة الغبار. رائحة أشبه ببهار الكاري. لماذا الكاري أصفر؟ لماذا العصفر (الكركم) اصفر. لماذا راية الموت والحرب صفراء؟ كنت في الخامسة عشرة. كان الحانوتي يغسل جسد عمي عبد اللطيف. لم أر، من قبل، جسدا تاما وهامداً.. يغسلونه ويحضرونه للدفن. من يومها "انصرعت" كما تقول أمي.. أو اختبلت. علامة اختبال الولد الثرثار ان يلوذ بالصمت وبالحزن. يغسلون الموتى؟ نعم. لكن ما هذا "البهار الاصفر" المنثور على قطن ابيض؟ وما هذه العملية حيث سدّ الحانوتي منافذ جثمان عمي كلها: الاخبثين والاطيبين. الميت لا يغرق ولا يختنق.. لكنني شعرت بالاختناق. الكاري والعصفر للتطييب، وشيء مثل الكاري والعصفر من مستلزمات التكفين. كنت طريحاً، ولغبار الصدمة رائحة الكاري.. ثم رائحة احتكاك عجلات السيارة باسفلت الشارع، الاشبه بالبهار الاسود المحروق. لماذا الكركم هو عصف/فر، لأن الاصفر يعصف بالابيض الذي هو لون الارز؟ لماذا اسم الفندق الجزائري "مازفران" لأنه غير مضمخ بماء الزعفران. الغبار ينجلي أسرع من الدخان. لكن رائحة الكاري ورائحة البهار الاسود تدوم تحت اللسان وفي الحلق، مثل الضباب في الوادي الجبلي شتاء. انبطحت (بطحتني ضربة السيارة الغادرة من الخلف، كما ينبطح المصروع) .. هل هذه هي النهاية؟ نهايتي قبل اسبوع من يوم ميلادي الـ 56؟ لم يكن على الاسفلت الاسود، حيث جذعي، لون دمي الاحمر. هذه خبطة اذاً، وليست دهساً. كيف اتنفس لو حطمت عجلات السيارة قفصي الصدري؟ مثل بيضة مفقوسة. يوم ميلادي هو، مصادفة، يوم سقوط الباستيل. ها أنا اسقط جريحا او قتيلا. ومنذ عشرين عاما، قبل الخبطة التي بطحتني كما كانوا يبطحون المصروع، كنت اخشى الموت في العام (2000) .. وكان خوفي خوفا خاصا بي. اجتزت ستة اشهر واسبوعا واحدا من العام 2000، وانا اخشى ان يكون عام الالفية هذه هو عام نهايتي كما كان "عام ابي". انا في السادسة والخمسين .. الا اسبوعا واحداً. مات أبي في الـ 56 من عمره بجلطة صاعقة ضربت دماغه وكنت غلاماً. منذ سنوات وأنا اراقب ضغط دمي. الصحافة ترفع الضغط؛ وهذا قد يكون مرضا وراثيا، وانا ابن أبي، ومريض بالكتابة الصحافية. ضربتني أزمتان قلبيتان، بفارق ربع قرن، وهذا يعني ان الازمة عابرة، ونتيجة ارهاق، وليست مؤشراً الى آفة قلبية. في آخر "شيك – أب" قبل الخبطة قال الطبيب: أنت ولد. ضغطك 70 / 130، ثلاثي الكولسترول 194 (الحد الادنى 150).. فرحت، سأجتاز "عام الأب" سأجتاز عام الالفية. سأكتب الف عمود يومي آخر. سأصوم، من مغرب الشمس، عن السكائر، التي التهمها مع فنجان الصباح كما تلتهمني كلمات العمود اليومي تلو العمود. المهم ان لا تسرف في التدخين قبل النوم؛ وان تسرف في خمسة مقادير يومية من الفاكهة والخضروات. للمثقف السياسي ثقافة طبية. لماذا لا ؟ وللمطروح ارضا، بعد خبطة سيارة، ان ينظر الى الاسفلت ليتأكد انه غير ملون بدمه الاحمر. .. ثم، ان يأمر عقله عصب طرف بنانه.. تتحرك السبابة. ان يأمر، تالياً، عصب اصبع قدمه. يئن المصاب، وكنت اطلق انيناً، لكنني كنت واعياً تماما للثقافة الطبية. طلبت من الناس، الذين فزعوا إليّ، لحملي في السيارة التي خبطتني، ان ينتظروا .. حتى أتأكد ان عجلات السيارة التي لم تدهسني وتحطم اضلاع قفصي الصدري، لم تقصم ظهري فتقعدني بالشلل. من الذي لا يخاف - بعد العمى - من الشلل النصفي: ان تجرجر نفسك الى مقعد المرحاض.. وان لا تنحني برشاقة لقطف زهرة برية. ان لا تمد قدميك على الطاولة مستمتعا بفيلم غرامي.. وأن تمارس الواجب الرجولي في وضع انثوي؟! عندما وقفت، بمساعدة الناس (سأعرف لاحقا انهم من شباب القرية، لأنهم سيذكّرونني بذلك) طلبت منهم الذهاب بي فورا الى المستشفى. من يدري؟ هناك خطر النزيف الداخلي البطيء. لم أعد شابا في "عام ابي".. لا عظامي، ولا بالأحرى احشائي. مثل زحف النمل الدؤوب سيأتي الألم القارس، بعد ان "تبرد الضربة السخنة ". النمل لا يزحف بالطبع، نراه هكذا. . .. وهكذا قد نشم الغبار بهاراً، وقد يذكرنا البهار الاصفر بمواد "يتبّلون" بها جسد الميت: الاخبثين والاطيبين. نحن هكذا، في لحظة الصدمة، نخلط احاسيس اللحظة بهواجس عميقة تقود الى زمن الطفولة. لا يغيب خطر النزيف الداخلي قبل 36 ساعة، قضيتها تحت رقابة صديق، بعد العودة من "الطوارئ". عندما يتبدد، تحت صورة الاشعة، خطر انكسار في العظام، يبدأ الوجع الحقيقي.. الناجم عن "التمزق العضلي". شهران.. ثلاثة، حتى مطلع العام الاول من الالفية الجديدة. كرهت رائحة الكاري والكركم عاما آخر. عاد الاصدقاء لمناكفاتهم القديمة: "هل تصبغ شعرك". "مات أبي اسود الشعر". يجتاز الصينيون "عام التنين" و"عام الدب" .. وأنا اجتزت "عام أبي". نقلاً عن جريدة "الأيام" الفلسطينية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 هكذا، اجتزت عام أبي  هكذا، اجتزت عام أبي



GMT 04:09 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

شكراً إيران

GMT 04:06 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

عودة إلى «حرب الظل» بين إسرائيل وإيران!

GMT 04:03 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نيران المنطقة ومحاولة بعث التثوير

GMT 04:00 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

«منبر جدة» والتوافق السوداني المفقود

GMT 03:50 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

ليبيا وتداول السلطة بين المبعوثين فقط

GMT 03:48 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

الأردن من أيلول الأسود لليوم

GMT 03:33 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

اكتشافات أثرية تحت المياه بالسعودية

GMT 03:21 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

«الإبادة» ليست أسمى

GMT 20:02 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم "عصابة المكس"
  مصر اليوم - أحمد السقا أولي مفاجأت فيلم عصابة المكس

GMT 15:00 2021 الخميس ,04 شباط / فبراير

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك

GMT 02:46 2017 السبت ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

نجم تشيلسي يرفض دعوة ساوثجيت لوديتي ألمانيا والبرازيل

GMT 03:35 2017 الجمعة ,09 حزيران / يونيو

سهر الصايغ تعرب عن سعادتها بنجاح مسلسل "الزيبق"

GMT 13:23 2017 الأربعاء ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

التنورة المحايدة تعطيك المجال الأوسع لإطلالة مختلفة

GMT 12:43 2021 الإثنين ,13 أيلول / سبتمبر

سيرين عبد النور تأسر القلوب بجمبسوت أنيق

GMT 00:46 2021 الثلاثاء ,03 آب / أغسطس

الحكومة تنتهي من مناقشة قانون رعاية المسنين

GMT 11:57 2021 الخميس ,10 حزيران / يونيو

مالك إنتر ميامي متفائل بتعاقد فريقه مع ميسي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon