توقيت القاهرة المحلي 02:33:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

"أشهد أنني قد عشت"

  مصر اليوم -

أشهد أنني قد عشت

حسن البطل

ستخرج جنازتي من هذا البيت، البيت الثالث والأخير في البلاد. صار لي بيت بعد سن الستين. تصوروا؟ تقول زعيمة حزب العمل الإسرائيلي: غير معقول أن يعمل الإسرائيلي براتب ثماني سنوات ليكون له بيت؟ قبل متوسط أعمار الرجال هنا بـ ١٣ سنة، صار لي بيت ستخرج منه جنازتي. بقي لي من أمل الحياة ست سنوات هي متوسط أعمار الرجال هنا. كم عموداً سأملأ هنا؟ عاش ميخائيل نعيمة سنوات بعد سن السبعين. وضع كتاباً عنونه "سبعون". سنتان وأُدرك سن السبعين.. ووداعاً لأطراف النهار، ربما لنهارات الحياة كلها وسنواتها. لن اضع كتاباً. ستخرج جنازتي من بيتي الأخير. كم منفى؟ اربعة مناف. كم بيتا في كل منفى. أربعة عشر بيتاً في اربعة مناف. كم جواز سفر؟ ستة جوازات قبل الجواز الأخير، في البلاد الأخيرة، في "الوطن المتاح" او المنفى الأخير. ستخرج جنازتي من بيتي الأخير. كم زيجة؟ اثنتان. كم طلاقاً؟ اثنان. كم ولداً؟ اثنان، بنت وصبي (واحد من كل زوجة). كم عملا؟ عملان طويلان. عمل - عملان في إعلام المنظمة، أولهما في الإذاعة، وثانيهما في المجلة المركزية.. وهذا العمل في هذا العمود، طويل العمر اليومي في الصحافة الفلسطينية. سأقصف عمر العمود قبل ان ينقصف عمري. أعرف ان القعود موت قبل الموت! ستخرج جنازتي من هذا البيت الأخير. كم سنة في المنفى (المنافي الاربعة)؟ ٤٧ سنة ونصف السنة، اطول من تيه قوم موسى في صحراء سيناء. كانت سورية، وهي شبه منفى - شبه وطن، أطول المنافي. وكانت قبرص وهي أجمل المنافي وأكثفها .. شبه منفى. لا أظن أنني سأعيش في بلدي عمراً يناهز عمر المنفى. الوطن السوري. أنا سعيد، محظوظ، وشاكر للشهداء انهم ماتوا لأعيش في البلاد أطول مما عشت في المنفى القبرصي ١٣ عاماً، واقل مما عشت في المنفى - الوطن السوري! كم مرّة أحببت ؟ هذا سر غير مغلق؟ كم امرأة غازلتها او غازلتني؟ هذا سر مغلق. وحبب أوطان الرجال إليهمو / مآرب قضّاها الشباب هنالكا.. لكن، كل حبّ كان قصير العمر يقصفه المنفى الجديد، ما عدا حبا واحدا بلغ من العمر أربعين عاماً ولا يزال ساخناً، مشاغباً، يبحر في العمر وفي المنافي ويعود إلى مرفئه، لا لشيء إلا لأن الأشرعة مزقتها رياح العواصف والعواطف العاصفة. كم نوعاً من السكائر دخنت؟ لا أدري. كم سنة؟ من سنة الهزيمة الحزيرانية الى أزمان المنافي، الى العودة للجزء المتاح من الوطن. في كل بيوت المنافي الاربعة، كنت أخرج، حرباً او طرداً، ومعي حقيبة - حقيبتان - حقائب اطوي بها اشيائي، وبعض اشياء بيتي .. لكن في بيتي الثاني المستأجر في البلاد والثالث، آخر البيوت ومستقرها، كانت شاحنات النقل تنقل أشياء البيت وتنقلني. كانت زوجتي الأولى تقول. السكن من السكون .. والسكون موت؟ .. وصرت بعد البيت الثاني المستأجر في البلاد، والبيت الأخير الذي ملكته بعد سن الستين أرى ان النقل من بيت الى بيت، أشبه بأشلاء ذبائح في مسلخ غير شرعي. الجثة المسلوخة (العفش) معلقة من عرقوبها، والى جانبها فروة الخروف، ورأسه، وكرشه. الذبيحة لا تعود للحياة .. البيت يعود للحياة! قال لي صديقي، محمد علي اليوسفي في قبرص: تعبت من حمل الحقيبة. تعبت من الانتقال من بيت الى بيت .. سأترككم واعود الى بلادي تونس، والى بيتي الأخير هناك. ستخرج جنازته من بيته الاخير في بلاده، ستخرج جنازتي من بيتي الاخير في بلادي. لا أعرف هل سيوارى صديقي في مثواه الاخير، حيث مسقط رأسه؟ قليل من الفلسطينيين المحظوظين سيوارون الثرى في مساقط رؤوسهم، وأنا لست محظوظاً، غير أنه على مكتبة بيتي زجاجة تحوي تراباً من مسقط رأسي، ونعفوا من هذا التراب على جثمان أمي وأخي الكبير في الشام. هل تخاف الموت؟ لا .. أخاف الخرف وأرذل العمر.. هل تخاف عذاب القبر؟ .. أضحكتني، ما هو حلم حياتك؟ أن أحمل حفيدي. ما أجمل ما في حياتك؟ أن اقطف الورد لحبيباتي، وان أرى طيوراً تتقافز على أفنان الشجر. ستخرج جنازتي من بيتي الأخير؟ "أشهد أنني قد عشت".

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أشهد أنني قد عشت أشهد أنني قد عشت



GMT 02:33 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

«متعلّمة»

GMT 02:31 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الأطفال والإدمان التكنولوجي المسكوت عنه

GMT 02:28 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

عقارات بني أسد... وهمسات التاريخ

GMT 02:26 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

إيران واستراتيجياتها وموقع فلسطين

GMT 01:49 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الصدر والحكيم والهوية المُركبة

GMT 01:43 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الأردن بين إيران وإسرائيل

GMT 00:00 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

معركة الاتحاد غير العادلة

GMT 00:00 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

المخادعون

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:24 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

"الثعابين" تُثير الرعب من جديد في البحيرة

GMT 22:38 2020 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

نادي سموحة يتعاقد مع محمود البدري في صفقة انتقال حر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon