1 فى لحظات الخوف تمر كل الأفكار والمشروعات «وطبعا الشخصيات» السيئة.
2
سنة 2010 أعلنت محافظة القاهرة فى خبر صغير عن اعتمادها فكرة «تاكسى السيدات». وكتبت يومها أن الشيطان يسكن فى التفاصيل، لنعرف أن صاحب الاقتراح استوحى الفكرة من دبى.. واقترح أن يكون اللون البمبى «البينك» هو اللون المميز للتاكسى. محافظة القاهرة وقتها اعتمدت المشروع لكنها رفضت اللون.. إلى هنا انتهى تقريبا الخبر.
خبر عادى كان يمكن أن يمر دون أن يستوقف أحدا، لكننى وقتها وجدته مزعجا جدا. لماذا أصبحت دبى هى النموذج الاجتماعى بعدما أصبحت النموذج المعمارى؟
على طريق مصر الإسكندرية الصحراوى «مولات» فخمة، ضخمة، تستوحى صرعة دبى فى كل ما هو ضخم وفخم.. تحاول أن تصنع مدينة من لا شىء تقريبا. مدينة مصنوعة يمكنها أن تبهر العين الفقيرة، أو التى تختصر الجمال فى الفخامة والإبهار فى استعراضات تكشف عن ثروات وتشترى خبرات.. لكنها تفتقد بالنسبة إلىّ معنى كبيرا من معانى «المدينة» بما تمثله تخطيطات المدن من شوارع تبنى مجتمعات لا تحبس الناس خلف أسوار، وأبواب ضخمة عليها حراس.. «المدينة بما أنها فضاءات مفتوحة تعيد بناء علاقات المجتمع على أساس الفرد واختياراته لا الدوران المستقر فى نفس الدوائر من عائلات وعشائر وكوميونات مغلقة..».
لم أحب دبى عندما زرتها.. ولا خدعتنى حريتها الوهمية، ورأيتها تمثل أزمة المجتمع فى الخليج الذى يستهلك أعلى إنجازات الحضارة، ولا تتطور معها العقليات والنظم الاجتماعية.
هكذا تبدو الحرية فى دبى قشرة، لا يجتهد أحد فى تحويلها إلى جدل وأفكار وثقافة فاعلة... إنها جزيرة الاستهلاك الكبرى، ولا مانع هنا أن تقرر إمارة دبى تخصيص تاكسى خاص بالسيدات. لتحاول تحريك المجتمع لتخرج النساء من معازل الحريم بأمان.
خطوة إذن قطعتها مصر منذ ١٠٠ سنة تقريبا حين أصبحت المرأة جزءا فاعلا من الحياة.. وأصبحت نموذجا لكل الدول النائمة فى عسل السلطنة العثمانية المر.
القاهرة أيضا كانت نموذجا لمحاولة المصريين فى اللقاء بحضارة أوروبا والبحر المتوسط، محاولة عبرت عن نفسها فى مدن تمنحها روح الفن، ذلك السحر الذى ما زال مؤثرا رغم كل محاولات تشويهه وقتله يوميا.
إنه سحر مصر الذى يبدو أن المصريين لا يشعرون به، أو يقرون بهزيمته فى مواجهة ثقافة الخليج ونماذجه المصنوعة، لكن ما يحتاج إلى التفكير فيه هو تأثير النموذج الخليجى على القيم الجمالية والاجتماعية فى مصر.
لا أريد طبعا التفكير بمنطق الاستعراض السخيف: كيف كانت مصر وكيف أصبح الخليج؟ هذه فكرة لا ينافسها فى السخف إلا تقليد نموذج الخليج من كل الذين يلعنونه صباح مساء. إنه انسحاق يعبر عن هزيمة، كما يعبر أيضا عن ملمح خطير فى مصر، وهو أن الثروات الهابطة على حفنة ضئيلة، وليدة طفرة أو انفجار يشبه إلى حد كبير انفجار البترول، لم يتعب فيه أحد، ولم يكن نتاج جهد عقلى وإبداعات عملية.. ولكن ثروة هابطة على أرض جافة، والنتيجة نباتات عشوائية، ولكنها عشوائية فخمة.
لم يفكر أصحاب اقتراح تاكسى الحريم مرة واحدة خارج المنطق الذى يسعى إلى الانغلاق، لم تمنع عربة السيدات التحرش الجنسى، ولم تنتهِ الجرائم الجنسية فى السعودية طوال سنوات حبس الحريم وراء أسوار القصور.. أعتقد أن ثقافة الانحطاط وصلت إلى مدى لا يمكن السكوت عنه.
3
هذا ما كتبته فى 2010.. وأيامها اختفى المشروع تماما، ولم يعد إلا هذه الأيام ليكون «الحل السحرى» لانتشار جريمة التحرش، التى كانت فى 2010 مثار إنكار تام من السلطات الأمنية، التى اعتبرت أن كشف الجريمة وفضحها «إساءة لسمعة مصر.. ومخطط لتدميرها».. وطبعا للانتقال من إنكار الجريمة إلى محاولة استخدامها.. قصة طويلة لا تعنينى اليوم..
4
تاكسى «الحريم».. محاولة «استهلاك» للحلول العاجزة، المستوردة من مجتمعات تعيش أزمة أكبر مع «الحداثة» وانكسار أقفاص الحريم، بدلا من تغيير البيئة القانونية والاجتماعية، فهذه الحلول لم تمنع مثلا ما نراه من فيديوهات تحرش جماعى فى السعودية، دولة لا تعترف بحق المرأة فى قيادة السيارات، ويحكم شوارعها مؤسسة شرطة دينية اسمها «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر».
5
التاكسى البينك قد يكون حلا، أو ضرورة، أو احتياجا للمعذبات مع التاكسى، لكنه حل يعبر عن أزمة ولا يحلها.. ويكرس الفصل بين المرأة والرجل بطريقة «استهلاكية» يقدر عليها من تستطيع دفع ثمن الخدمة المخصوصة، لتصبح أسيرة الخدمة بالألوان المميزة، بالضبط كما يحبس سكان المنتجعات العمرانية خلف أسوار دفعوا فيها الملايين.