وائل عبد الفتاح
اختلفنا..
صديقى محمد فريد المتحمس دائمًا مع المظلوم والمضطهد، تعاطف قد ينسيه أحيانًا بقية التفاصيل، أو يجعله يضع المظلوم على خلفية سوداء ليمعن النظر فى مأساته.
فريد سيناريست ومخرج أفلام وثائقية، وتورط فى السياسة بقلبه أولًا رغم واقعيته المفرطة.
المهم اختلافنا كان على المرسى.
فريد رأى فيه: بطلًا تراجيديًّا.
المرسى.. تراجيدى؟
اعترضت، فلم أرَ أبدًا فى المرسى بطلًا يصارع أقداره، إنه مجرد شخص صغير وضع فى مفترق طرق أحداث كبيرة ففجر المساخر.. والتعاطف على حالته الرثة.
فريد ليس إخوانيًّا ولا يحترمهم.. لكنه ينظر إلى المشهد من زاوية تحاول أن ترى المسار الدرامى للشخص الذى كان على رأس السلطة، ومنها خرج إلى السجن، وهو فى الحالتين ليس المقصود بشخصه، لكنه مندوب من جماعة.
صديقنا إبراهيم السيد الطبيب والشاعر.. شهد الخلاف وقرر إكمال الحوار، الخلاف بعد أيام مما كتبه الكاتب والمترجم بشير السباعى على صفحته فى «فيسبوك».
كتب بشير السباعى: «تراجيديا الإخوان ليست تراجيديا إغريقية تستثير الفزع أو الإشفاق، بل تراجيديا ماكبثية (نسبة إلى ماكبث بطل مسرحية شكسبير) لا تستثير سوى التقزز، وذلك بقدر ما أنهم لا يرون إلا أنفسهم، ولا يرون مجتمعًا بكامله لا يريد إذابة ذاته فى ذاتيتهم غير المستعدة للتعايش مع أى ذاتية أخرى، إنها تراجيديا مسخرة..».
أنا وفريد ضربنا (like)، أى الموافقة على كلام بشير السباعى، الذى فتح لنا من أين تأتى مسخرة المأساة الإخوانية، وهى أنها جماعة لا ترى سوى نفسها، وتريدنا وهى تكرهنا، وتتمنى عقابنا على عدم قبول حكمها، أن نتعاطف معها.
الحوار تم قبل الروايات المضحكة عن سبب عدم حضور المرسى محاكمته، ومن مبرر سوء الأحوال الجوية، الذى لم يصلح طويلا، إلى تسريبات المصادر الأمنية عن رفض المرسى الخروج من بوابة السجن بالملابس البيضاء، وحتى تسريبات مصادر أمنية أخرى عن خطة إخوانية لاغتياله، ويختم كل هذا نفى من وزارة الداخلية.
كلها روايات عن شخص لا يعى تمامًا ولا يستوعب ما يحدث له، وهذه قمة مأساوية المسخرة، وذكرتنى بيوم عودة المرسى من الاختفاء بعد عزله من الرئاسة.. لم يتوقع أحد أن تكون العودة فى أوتوبيس صغير. استعد لهذا اليوم بدرجة ضاغطة على الأعصاب. استدعوا له كل الشخصيات الشهيرة فى استعراضات المحاكم. الشرير منهم اختار له صدام حسين. لكن العارف رسم له شخصية سلوبودان ميلوسوفيتش، حينما احتج على اصطياده فى المحكمة الجنائية الدولية. الاصطياد ومن هذه القوى منحه «بجاحة»، الدفاع عن المذابح العنصرية. إنه فى مهمة رسولية لإنقاذ طائفته، شعبه، البشر الذين ينتمى إليهم والرسول لا يسأل لأنه فى مهمة عليا، قتال من أجل العدالة الإلهية بانتصار شعبه المختار. المرسى لم تصل نفسيته ولا جهازه العاطفى، العقلى إلى هذا المستوى، لكنه عاش فى نسخ مكررة من مشاغبى المحاكم. بدا هزليًّا، وهو فى طريقه إلى دور التراجيدى. أسهم فى هزليته اختيار الميكروباص بعدما استدعى هو من مخازن الرئاسة سيارة مكشوفة يلف بها الملعب الرياضى ليحيى ذكرى بطولة حرب لم يشارك فيها. الهزل لا يكسر التراجيديا فقط، لكنه يضع الجمهور البحث عن الجدية فى موقع ميلودرامى فريد، الشفقة والضحك معًا.
المرسى البسيط لم يكن يحلم إلا بترقى مراتب الجماعة. وحياته خضعت لهندسة الرجل الصغير لا أكثر.. والموقف يربكه. يستدعى كل ما فى نفسه وروحه وذاكرته فلا يجد إلا نثارات بلاغية، يتصور أنها منطق، لكنها تبدو مقتطفات من رحلة دخول رجل صغير إلى بلاد العجائب، للأسف بعد أن أعاقته تربيته وملكاته عن الدهشة والاستغراب والتعلم.
لم يعرف مرسى إنه محبوس فى قلعة أبى قير البحرية إلا لحظة مغادرتها، كان يقيم هناك فى حراسة تحميه من مغامرة عسكرية دولية كما يروى محبو الإثارة فى روايات البطولات الحربية، أما الواقعيون فيختارون من الروايات المتناثرة التفاصيل التى وصفت «المخزن»، الذى كان مقر إقامته، ولم يطلب فيه باستثناء الأطعمة التى يحبها، سوى أن تكون البدل الرياضية التى يرتديها من ماركات معروفة.
هذا ما يقيس به الرجل الصغير مكانته، ومدى المعاملة التى يعامل بها (نوع الطعام والماركات..)، إضافة إلى التحيات أو اللقب (لا يمكن لإخوانى أن ينادى زميله إلا بلقب..)، وسربت صحيفة «الوطن» تسجيلات مصورة صاحبتها حكايات عن شكوى مرسى (لا من المعاملة..) لكن: «.. إنهم لا يقولون لى ياريس.. ألم أقل لكم إنه انقلاب..».
التسريبات أظهرت أن مرسى ليس لدى ما يكون به صدام ولا ميلوسوفيتش.. لا يملك إلا لجاجة التجار فى المساومة معتمدًا على بقع من المنطق لا يمكن توصيلها معًا..لتصنيع رؤية.. أو لخلق صورة منسجمة عن العالم.. تلك الرحلة من القصر إلى القلعة لم يرَ من خلالها شيئًا خاصًا خارج ما يسمعه. الأذن هى عينه الأصلية. ومنها يستمد أسلوبه فى ملء الدور المطلوب منه.
نقلاً عن "التحرير"