وائل عبد الفتاح
.. كمال فى العشرين من عمره. هرب من إحدى مدارس الأيتام بحثًا عن مسكن، وبعد طول عناء وجد ملاذه فى سطح أحد محلات بيع التليفونات المحمولة، لكن هذا السطح الذى يقع فى حى راقٍ، لم يعجبه، ودفعه فضوله إلى الدخول عبر الحديقة إلى مطبخ المنزل المجاور/حيث وجد ضالته، وكل ما كان يفتقده من طعام وقصص عائلية.
فى البداية، كان يعمل فى سوق للخضار، ثم اكتفى بملذة العيش فى هذا المنزل الواسع، إذ يأكل مما يجد فى الثلاجة ويعد الشاى بعد أن ينام أفراد العائلة الخمسة: الوالدان وثلاث فتيات.
كمال كان مهووسًا بالمخللات، وهذا السبب وراء إقامته نهائيًّا فى المنزل.. لأن التهامه جميع قطع المخلل فى الثلاجة قاده إلى الإقامة فى علية (صندرة) المطبخ والعيش معظم الأربعين يومًا التى أمضاها فى المنزل.
الأم شعرت بأن الثلاجة تفرغ سريعًا/لكنها أرجعت ذلك إلى سن المراهقة التى تعيشها بناتها الثلاث وتجعل شهيتهن مفتوحة للطعام.
تجرأ كمال ذات مرة وغسل الصحون المتّسخة بعد أن قرر غسل صحن أكل فيه، لكن كرم أخلاقه دفعه إلى غسل كل الصحون، الأمر الذى قابلته الأم بامتنان لبناتها، معتقدة أنهن قمن بالغسل محبة لها.
كمال فى إقامته لساعات طويلة فى «الصندرة» استمع إلى قصص العائلة وتفاصيل حياتها وأسرارها.. وأوشك أكثر من مرة على التدخل لحل مشكلات بين أفراد العائلة لولا ضيق الحال وظروف الضيافة الغريبة.
كان من الممكن أن تستمر إقامة كمال مع العائلة لفترة أطول لولا صدفة اللقاء بينه وبين أصغر البنات (13 سنة) فى المطبخ/ذلك أنه اعتقد أن هدوء مساء الخميس يعنى أن الأسرة خارج المنزل، فنزل من مخبئه.. وتمشّى على راحته ليفاجأ بالفتاة فى أحد الممرات.. ورغم محاولته إزالة الخوف.. أو تهدئته/ورغم حالة الألفة التى يشعر بها تجاه الأسرة من طرف واحد/طرفه.. سارعت الفتاة بإبلاغ أبيها الجالس على جهاز كمبيوتر.. وهنا تعقّدت حياة كمال.. فالأب كرجل عادى أبلغ الشرطة.. والضباط أعدّوا كمينًا لاصطياد كمال الذى هرب بعد فزع الفتاة وأبيها/إلا أن الحنين دفعه بعد ساعات قليلة.. للعودة إلى مكان بالقرب من العائلة.
كمال قال لمحققى الشرطة: لم أكن أنوى السرقة.. ولم يفهموه حين حاول الشرح: «.. لقد شعرت خلال الأربعين يومًا بأننى واحد من العائلة.. وكانوا يتركون فى المطبخ بعض الأموال والخواتم، لكننى لم أسرق شيئًا...».
كمال أصر فى التحقيقات على عدم نيته السرقة «.. كيف أسرق أهلى؟..»، لكن الشرطة أصرت من جانبها على أنه كان يخطط لـ«ضربة العمر..».
حدث هذا فى القاهرة منذ سنوات ليست قليلة/ويومها اكتشفت أنه ليس مأساويًّا مثل سعيد مهران فى رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب»، ولا بطلًا شعبيًّا مثل روبن هود.. أو أدهم الشرقاوى فى الحكايات الشعبية.. لكنه أقرب إلى أبطال يحدثون صدمات خفيفة الظل.. تكشف عن الخلل الاجتماعى والسياسى.. فالسرقة هنا اقتناص حق ضائع أو أمنية محروم.. وليس مجرد جريمة يعاقب عليها القانون.. كمال يشبه أبطال الكاتب التركى عزيز ناسين الذى يمتلك مهارة فى استخدام السخرية.. سلاح الضعفاء فى مجتمعات العدالة المهزوزة.. والحرية الغائبة.
عزيز.. كاتب مناسب لدول تنمو فيها سلطة جبارة تمتلك العالم وتصادره.. تحوله إلى ملكية خالصة.. وهى فكرة من العصور الوسطى ما زالت تقيم فى مجتمعات تبدو مثل سيرك كبير يشاهد العالم فيها ماضيه لكى يضحك.
لا أعرف أين كمال الآن/وبعد ثورة تكسّرت فيها الهندسة الاجتماعية أو الممرات المسدودة فى الحياة/لا أعرف ماذا ترك كمال من ذكريات لدى العائلة..
لكننى تذكرت الحكاية كلها عندما قرأت عن طالب الحقوق المتفوق الذى رُفضت أوراقه فى النيابة لأنه «غير لائق اجتماعيًّا».. وعدم اللياقة التى سدت الممرات أمام المتفوق كانت عائلته التى لم يحصل فيها الأب والأم على شهادة جامعية.. هل المطلوب من المرفوض أن يبحث عن عائلة أخرى؟.. وهل الممرات مفتوحة أمام طبقة نموذجية يهندس المجتمع حسب شروطها وتُقام حولها الأسوار والقوانين وشروط اللياقة..؟
.. ممرات مسدودة.. ترسم المصائر وتحدد المستقبل.. وقبل أن تتخذ حكاية نقاشًا اجتماعيًّا/سياسيًّا/قفز بها الأب إلى حدود الميلودراما ومات من الجلطة.
■ ■ ■
■ هذه واحدة من حكايات القاهرة التى أكتبها أسبوعيًّا فى صحيفة «السفير» اللبنانية.. وبالتأكيد هناك سبب موضوعى كبير دفعنى اليوم لإلغاء كل مشاريع المقالات التى أعددتها.. ربما تكون قد عرفت بعد القراءة.. وأنا سأحاول أن أفهم أكثر لماذا أعدت هذه الحكاية بالذات الآن؟
نقلاً عن "التحرير"