توقيت القاهرة المحلي 13:52:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ومات الأب بالجلطة

  مصر اليوم -

ومات الأب بالجلطة

وائل عبد الفتاح

.. كمال فى العشرين من عمره. هرب من إحدى مدارس الأيتام بحثًا عن مسكن، وبعد طول عناء وجد ملاذه فى سطح أحد محلات بيع التليفونات المحمولة، لكن هذا السطح الذى يقع فى حى راقٍ، لم يعجبه، ودفعه فضوله إلى الدخول عبر الحديقة إلى مطبخ المنزل المجاور/حيث وجد ضالته، وكل ما كان يفتقده من طعام وقصص عائلية. فى البداية، كان يعمل فى سوق للخضار، ثم اكتفى بملذة العيش فى هذا المنزل الواسع، إذ يأكل مما يجد فى الثلاجة ويعد الشاى بعد أن ينام أفراد العائلة الخمسة: الوالدان وثلاث فتيات. كمال كان مهووسًا بالمخللات، وهذا السبب وراء إقامته نهائيًّا فى المنزل.. لأن التهامه جميع قطع المخلل فى الثلاجة قاده إلى الإقامة فى علية (صندرة) المطبخ والعيش معظم الأربعين يومًا التى أمضاها فى المنزل. الأم شعرت بأن الثلاجة تفرغ سريعًا/لكنها أرجعت ذلك إلى سن المراهقة التى تعيشها بناتها الثلاث وتجعل شهيتهن مفتوحة للطعام. تجرأ كمال ذات مرة وغسل الصحون المتّسخة بعد أن قرر غسل صحن أكل فيه، لكن كرم أخلاقه دفعه إلى غسل كل الصحون، الأمر الذى قابلته الأم بامتنان لبناتها، معتقدة أنهن قمن بالغسل محبة لها. كمال فى إقامته لساعات طويلة فى «الصندرة» استمع إلى قصص العائلة وتفاصيل حياتها وأسرارها.. وأوشك أكثر من مرة على التدخل لحل مشكلات بين أفراد العائلة لولا ضيق الحال وظروف الضيافة الغريبة. كان من الممكن أن تستمر إقامة كمال مع العائلة لفترة أطول لولا صدفة اللقاء بينه وبين أصغر البنات (13 سنة) فى المطبخ/ذلك أنه اعتقد أن هدوء مساء الخميس يعنى أن الأسرة خارج المنزل، فنزل من مخبئه.. وتمشّى على راحته ليفاجأ بالفتاة فى أحد الممرات.. ورغم محاولته إزالة الخوف.. أو تهدئته/ورغم حالة الألفة التى يشعر بها تجاه الأسرة من طرف واحد/طرفه.. سارعت الفتاة بإبلاغ أبيها الجالس على جهاز كمبيوتر.. وهنا تعقّدت حياة كمال.. فالأب كرجل عادى أبلغ الشرطة.. والضباط أعدّوا كمينًا لاصطياد كمال الذى هرب بعد فزع الفتاة وأبيها/إلا أن الحنين دفعه بعد ساعات قليلة.. للعودة إلى مكان بالقرب من العائلة. كمال قال لمحققى الشرطة: لم أكن أنوى السرقة.. ولم يفهموه حين حاول الشرح: «.. لقد شعرت خلال الأربعين يومًا بأننى واحد من العائلة.. وكانوا يتركون فى المطبخ بعض الأموال والخواتم، لكننى لم أسرق شيئًا...». كمال أصر فى التحقيقات على عدم نيته السرقة «.. كيف أسرق أهلى؟..»، لكن الشرطة أصرت من جانبها على أنه كان يخطط لـ«ضربة العمر..». حدث هذا فى القاهرة منذ سنوات ليست قليلة/ويومها اكتشفت أنه ليس مأساويًّا مثل سعيد مهران فى رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب»، ولا بطلًا شعبيًّا مثل روبن هود.. أو أدهم الشرقاوى فى الحكايات الشعبية.. لكنه أقرب إلى أبطال يحدثون صدمات خفيفة الظل.. تكشف عن الخلل الاجتماعى والسياسى.. فالسرقة هنا اقتناص حق ضائع أو أمنية محروم.. وليس مجرد جريمة يعاقب عليها القانون.. كمال يشبه أبطال الكاتب التركى عزيز ناسين الذى يمتلك مهارة فى استخدام السخرية.. سلاح الضعفاء فى مجتمعات العدالة المهزوزة.. والحرية الغائبة. عزيز.. كاتب مناسب لدول تنمو فيها سلطة جبارة تمتلك العالم وتصادره.. تحوله إلى ملكية خالصة.. وهى فكرة من العصور الوسطى ما زالت تقيم فى مجتمعات تبدو مثل سيرك كبير يشاهد العالم فيها ماضيه لكى يضحك. لا أعرف أين كمال الآن/وبعد ثورة تكسّرت فيها الهندسة الاجتماعية أو الممرات المسدودة فى الحياة/لا أعرف ماذا ترك كمال من ذكريات لدى العائلة.. لكننى تذكرت الحكاية كلها عندما قرأت عن طالب الحقوق المتفوق الذى رُفضت أوراقه فى النيابة لأنه «غير لائق اجتماعيًّا».. وعدم اللياقة التى سدت الممرات أمام المتفوق كانت عائلته التى لم يحصل فيها الأب والأم على شهادة جامعية.. هل المطلوب من المرفوض أن يبحث عن عائلة أخرى؟.. وهل الممرات مفتوحة أمام طبقة نموذجية يهندس المجتمع حسب شروطها وتُقام حولها الأسوار والقوانين وشروط اللياقة..؟ .. ممرات مسدودة.. ترسم المصائر وتحدد المستقبل.. وقبل أن تتخذ حكاية نقاشًا اجتماعيًّا/سياسيًّا/قفز بها الأب إلى حدود الميلودراما ومات من الجلطة. ■ ■ ■ ■ هذه واحدة من حكايات القاهرة التى أكتبها أسبوعيًّا فى صحيفة «السفير» اللبنانية.. وبالتأكيد هناك سبب موضوعى كبير دفعنى اليوم لإلغاء كل مشاريع المقالات التى أعددتها.. ربما تكون قد عرفت بعد القراءة.. وأنا سأحاول أن أفهم أكثر لماذا أعدت هذه الحكاية بالذات الآن؟ نقلاً عن "التحرير"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ومات الأب بالجلطة ومات الأب بالجلطة



GMT 07:55 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

رائحة الديمقراطية!

GMT 07:51 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

نصرة.. ونعمة.. وصدفة

GMT 07:49 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

صراع النجوم.. ومن (يشيل الليلة)!!

GMT 07:46 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

من حكايا دفتر المحبة.. التى لا تسقط (٤)

GMT 07:42 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

الصفحات الصفراء

GMT 03:54 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

عاربون مستعربون: لورانس العرب والصحراء

GMT 03:51 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

هل من أمل في مفاوضات سودانية؟

GMT 03:47 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

سلِّموا السلاح يَسلم الجنوب!

الملكة رانيا بإطلالات شرقية ساحرة تناسب شهر رمضان

عمان ـ مصر اليوم

GMT 16:39 2019 الجمعة ,18 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل انواع "الأرضيات الصلبة" في الديكور المنزلي

GMT 04:37 2017 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

نادين نجيم تتألق في حفلة Bulgari Festa في دبي

GMT 14:32 2017 الثلاثاء ,05 كانون الأول / ديسمبر

الآثار تصدر الجزء الأول من سلسلة الكتب عن مقابر وادي الملكات

GMT 10:34 2017 الأحد ,23 إبريل / نيسان

نيرمين الفقي تنشر صورة جريئة تكشف عن مفاتنها

GMT 15:16 2017 الخميس ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

المنتخب الوطني يرتدي الزي الجديد في تصفيات أمم أفريقيا

GMT 08:14 2017 الأحد ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيندي" تغزو عالم التزلج على الجليد بمجموعة فريدة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon