وائل عبد الفتاح
«فى عوامة»..
لم يُطلع نجيب أحدًا على سر زواجه.
وبالطبع لم تعرف شلة الأصدقاء أن بيت الزوجية فى عوامة على النيل.
«الغرام والنساء» واحد من أسراره المقدسة.
حكى فقط عن حبه للجيوكندا.
جارته فى العباسية التى تشبه صاحبة الابتسامة الشهيرة فى لوحة ليوناردو دافنشى الشهيرة. لم يكلمها. ظل يحبها عن بعد. حبه عذرى. صامت على الطريقة التى أحب بها كمال عبد الجواد فى الثلاثية.
الفتاة من سكان العباسية الغربية (أى الأكثر ثراء) وهو من العباسية الشرقية. مراهق فى الثالثة عشرة.. يلعب الكرة فى الشارع وهى تنظر من شرف بيتها الواسع.. التقط نجيب الشرارة.. وأنهى بها مرحلة من المتعة والعذاب. متعة مداعبات ومغامرات الطفولة على طريقة لعبة العروسة والعريس.. وعذاب تأنيب الضمير والاعتذار اليومى إلى الله.
بطلة الحب الصامت موديلها أوروبى. مختلفة. وبعيدة. وبقى الحب من طرف واحد.
لم يَنْسَها أبدًا. الحب الأول. والتجربة الأولى، بعيدًا عن ألعاب الغريزة والاكتشاف الأولى.
الحب بعدها «طيارى» خصوصا أنه عندما فكر.. زواج أم عزوبية؟ حسم الأمر: لا زواج. حياته مرتبة فى رعاية أمه. ولا خروج عن العادات اليومية إلا بعادات أخرى معروفة ومحفوظة.
لكن الأم تعبت.ودخلت مرحلة المرض المنهك. فكرت فى البحث عن زوجة لابنها الأخير.
عاش وحيدًا فى البيت. رغم أن له 6 أشقاء. هو الصغير الذى ظل فى البيت بعد زواج الكبار.. مدلل.. ويعيش إحساس الطفل الوحيد، خصوصا أن الأب طيب وحنون. والأم «دقة قديمة» وهى المديرة.
أحلام الأم دارت حول فتاة ثرية تخاف أمها من طمع زوج غريب يستنزف ثروتها. كان نجيب، 44 سنة، وموظفا فى الأوقاف. ومأمونًا بالنسبة للأم.
لكنه رفض إهانة الخوف على الثروة.
وتزوج من «عطية الله». زواجا تقليديا. فهى، كما قال شقيقه زوجة صديق له. قابلها، وفى لحظة قرر الزواج.. يحكى: «كان زواجا عمليا، بمعنى أننى اخترت الزوجة المناسبة لظروفى، كنت فى حاجة إلى زوجة توفر لى ظروفا مريحة تساعدنى على الكتابة ولا تنغص حياتى، زوجة تفهم أننى لست كائنا اجتماعيا ولا أحب أن أزور أحدا أو يزورنى أحد».
ولا يخبرنا نجيب محفوظ أين قابل زوجته ولا كيف يراها بعيدًا عن فكرة الزوجة المريحة.
أخفى نجيب خبر زواجه عن أمه وشلة الأصدقاء. ليلة زفافه كانت فى بيت شقيقه «محمد». ثم انتقل إلى العوامة.. حتى خافت زوجته من حادثة رأت فيها غرق أطفال فى النيل.. فخافت على طفلتها الأولى.
لم يعرف أحد عن عائلة نجيب شيئا إلا بعد جائزة «نوبل» واختراق الإعلام قلعة البيت. لم يكن الأصدقاء يزورونه فى العادة.. كان معهم طوال الوقت.. وهذا ما جعلهم يحاولون اكتشاف: من زوجة نجيب محفوظ؟!
تصور البعض أن وراء الزواج سرًّا كبيرًا، وأنها ربما تكون إحدى بطلات رواياته.
وقال البعض الآخر: ربما هى من موديل الزوجة النكدية التى تطفش الرجل من البيت.. وربما هذا سر تفوق محفوظ.. فهى دفعته إلى الغرق فى العمل.. والتفرغ للأدب.. قالها صديق بسخرية عابرة، لكن هناك من يصدقها بالفعل.
رغم أن الأمر يبدو كله أقرب إلى رحلة ذكورة شرقية اعتيادية بدأت بالصدمة الرومانسية فى حب المراهقة، ثم عربدة الفتوة والشباب، ليأتى بعد ذلك الاعتزال بالزواج.
ونجيب محفوظ فى هذه الصورة هو رب عائلة يترك بيته معزولا عن ثقافته. ويعيش أهل بيته معزولين عن حياته حتى إن ابنته عندما عادت من عملها ووجدت باب الشقة مفتوحا والناس متجمعة حول نجيب محفوظ يوم إعلان جائزة نوبل لم يَدُر بذهنها سوى شىء واحد: أنبوبة البوتاجاز انفجرت.
هكذا فإن الأدراج هى سر نجيب محفوظ. يضع فى كل درج جزءًا من حياته: الوظيفة والكتابة والشلة والبيت والعائلة والمتع المنفلتة.
نقلاً عن "التحرير"