وائل عبد الفتاح
1
الجزار مغناطيس للدراويش. أقصد حكايته البصرية وعمره القصير. حكايته حكاية وَلِىّ له مقام يسمح لعابرى السبيل بالاقتراب والاختصار واقتناص أيقونة منه. الحقيقة أنه «حجاب» بالمعنى الشعبى، أى الذى يختفى فيه الشخص خلف مثلث من الطلاسم المكتوبة والمرسومة. الجزار طلسم يمكن استسهاله والاحتماء به ومن عالمه البدائى.. الذى يكاد يتفتت من فرط هشاشته ويزورك فى المنامات من فرط قوة حضوره.. إنه العالم الذى لا يمكن تشخيصه. عالم بلا هندسة منطقية، كأنه طوطم يندلق من بركان داخلى، لا يتحمله سطح اللوحة من فرط اندفاعها إلى التفتت.
2
مثل المنامات يمكن أن تحكيها لكن غموضها يبقَى وسحرها يعلَق بذاتك مثل مصير لا تهرب منه، لوحات الجزار لا تبالى بك، وكائناتها مشغولة بفرجتها العابرة للحياة. فى كل لوحة ممر معذبين إلى برزخ بين عالمين يقف بينهما الجزار المهدد باقتراب النهاية.
3
كأنه حكاية قديمة، رغم أنه فى الصور يتماثل مع عصر، نفس البدلة، ورابطة العنق، وكِريم يصنع تجعيدات الشعر التى تتشابه مع تجعيدات جمال السجينى (النحات الشهير) وجارهما فى حفل يبدون فيها كورالا منسجما من أفندية ثورة الضباط، تماثُل يغطى جَيَشَانا داخليا ينفجر فى اللوحة، دون رغبة فى الإتقان أو فى انضباط على مستوى اللغة.. إنه العالم كما يفاجئك فى مسرح من مسارح الشارع، أو فى الشارع نفسه، أو تحت سطح البحر، أو فى سرداب مهجور.
4
إلى السيدة زينب من الإسكندرية رحلة الجزار فى الأربعينيات، أى من الأسطورة الكوزموبوليتانية إلى الأسطورة الشعبية، بدأ الأفندى الصغير المولود 1925، فى زخم أحلام البرجوازية الصغيرة وتوتراتهم باتجاه الصعود الاجتماعى، وشغل الفراغات فى جسد مجتمع ينمو لأول مرة منفصلا عن أجساد الإمبراطوريات الإسلامية، ومقاوما لاجتياح إمبراطوريات الاستعمار.
الجزار لم يكمل الطب بعد اكتشاف مبكر لمرض الروماتيزم وكان من الأمراض الخطيرة المهددة للحياة وقتها. ولم يعد التشكيل هامشا من هوامش الهواية، لكنه اختيار ومصير، فالجسد العابر سينفجر بحكابات كأنه ينسخها من جداريات غير مرئية، سجَّل عليها العابرون دون ترتيب ولا رغبة فى الهندسة المحكمة، إنها عواطف تتجسد فى لحظة فالتة من الزمن لتندفع بقوة حضورها لا ينفصل عن فنائها.
5
من عالم ريفييرا المكسيكى تعلَّم الجزار على يد حسين يوسف أمين كيف يبحث عن حكاياته، يصبح جزءًا منها، امتدادا لها، ويصنع فنَّا معاصرا (اسم الجمعية التى انضم إليها الجزار وصاغت أفكاره وانحيازاته)، وسوريالية (لها طريقتها فى هندسة الفوضى.. تخص الخيال الشعبى المصرى). ومع حسين يوسف أمين دليله للسحر المقيم فى جداريات أرواح المعذبين، المشغولة ببؤسها وسعادتها، المضطربة، المنتظرة فى الممرات لطلسم يحميه، يصوغه عراف دون مجهود لا فى الكتابة ولا فى الرسم ويتركه معلقا فى مسافة تتحول فيها الحواس الطائرة إلى أجساد مكتوب عليها اسم الجزار.
نقلاً عن "التحرير"