وائل عبد الفتاح
سنحاول التفكير فى المستقبل بدلًا من الخوف منه.. هل تريدون دولة حديثة؟
بالطبع الدولة الحديثة ليست «فضل وبواقى» الدساتير والأنظمة فى دول أخرى، وكل طرف يختار ما يوافق خطته فى رسم مصر على وضع يدارى الاستبداد أو السلطوية بمجموعة تحابيش وبهارات تخفى فساد الطبخة.
الدولة الحديثة ليست طبخة فاسدة، لكنها مسار تجربة البشرية مع كل أنظمة قهر البشر من الدول الإقطاعية إلى الجمهوريات العسكرية مرورًا بالدول الدينية.
كل نظام كان يضبط شعبه على مقاس «سلطويته-وصايته»، فيرى ابن الدولة الإقطاعية أن الخضوع لمالك الأرض هو الأدب والأخلاق وعلامة المواطن الصالح.
وابن الجمهورية العسكرية كان برتبة مجند فى ثكنة، كلما التزم بالتعليمات والأوامر وقدّسها سيحصل على رتبة أعلى فى قائمة «المواطن الصالح».
أما الدولة الدينية، فالسمع والطاعة للمؤسسات الدينية ورؤوسها هو الدين، وعلامة الطاعة لله وليس المواطنة الصالحة فقط.
هذه تجارب فى قهر الشعوب، ترويضها لصالح جماعة، نخبة، حاشية، كلها تنتهى دائمًا إلى عصابة تعتبر أن فسادها مصلحة للدولة والوطن.
وهكذا إذا اعتبرنا أن مصر جزء من هذه الرحلة، إضافة إلى أن ثورتها قاومت كل أشكال أنظمة السلطوية والاستبداد فى أقل من 30 شهرًا فشلت فيها نسخ الدول القديمة أو نصف القديمة بسلطويتها وميلها إلى خضوع المواطن، لا حريته.. هنا لدينا(ارتباط مصر بتطور البشرية فى الحقوق والحريات، مضافًا إليها ما حطّمته الثورة من أعمدة دولة السلطوية والوصاية).. و هذا يعنى:
1- أنها دولة مساواة بين الجميع، لا مكان فيها لتمييز على أساس الدين أو العرق أو الحساب فى البنك، بمعنى آخر لا بد أن ينتهى ابتزاز أى أغلبية دينية أو عرقية أو اجتماعية، لفرض تصوراتها فى تعبيرات تمنع التفكير أو تستوجب ديبلوماسية الحوار، لكى لا تُصاب بلعنة التهم الطائرة، فماذا يعنى مثلًا تطبيق الشريعة الإسلامية، وبعيدًا عن أن مفهومًا غير محدد وخرج ليكون عنوانًا لحشد جمهور المتدينين أو لإسكات العقل ومنع التفكير، بعيدًا عن هذا فإن فرض شريعة دينية معينة على غير المؤمنين بها، كيف يمكن النظر إليه فى إطار أنها دولة يتساوى كل سكانها فى حق الوجود.
2- وهذا لا يعنى إلغاء أو إنهاء «الشرعية الدينية» فى الأنظمة الاجتماعية لمن يؤمن بها فى مسارات اختيارية وليست إجبارًا، فالزواج مثلًا لا بد أن يكون له إطار مدنى، حتى لا يضطر إما إلى الانصياع لتعليمات المؤسسة الدينية، أو يلجأ إلى ألاعيب للتحايل على القوانين القاهرة.
3- بمعنى أن الدولة الحديثة الآن تسير باتجاه أنها «دولة مواطن».. أساسها احترام إرادته واختياراته، وهذا بالطبع يختلف عن أسلوب المحاصصة الذى يضع فى المادة الثالثة من الدستور الملعون مصير ملايين المسيحيين تحت سلطة الكنيسة بالمعنى القانون لا الدينى، تنفيذًا لفكرة أن على غير المسلمين الخضوع لشرائعهم، وهى فكرة ترى المصريين طوائف وقطعانًا لا أفرادًا أحرارًا.
4- التغيير إذن فى أن يصبح المواطن أساس هذه الدولة التى مهمتها حماية حريته وحقوقه وتوفير سبل سعادته، لا مطاردته وترويضه ومعاملته على أنه «غير كامل الأهلية حتى لو ثبت العكس».
5- وهنا لا يمكن فى دولة حديثة أن توجد مساحة مقدسة لمؤسسة فى حد ذاتها بعيدًا عن مهمتها، فالمؤسسات كلها تخضع للمحاسبة حسب القانون، ووفق وظيفتها فى الدولة، لا قداسة ولا خطوط حمراء، فهما منبع الفساد.
6- واللحظة التى يكتب فيها دستور الدولة لها تأثير مهم فى مزاج كتابته، ولهذا فإن حملات الدعاية الآن تحاول تشكيل مزاج يمنح مؤسسات قداسة، أو تعيد تقييم أنظمة قديمة، أو تعيد معارك هوياتية سخيفة وقاتلة.
7- اللحظة الآن تقول إننا وصلنا إلى فشل كامل فى دولة ما قبل 25 يناير، كما فشلت محاولة الاستنساخ بعد 25 يناير، وهذا يعنى لمن يريد أن يرى المستقبل للجميع، وليس كعكة يبحث فيها عن نصيبه، فإن هذا يعنى أنه لا حل إلا بتأسيس نظام ديمقراطى، لا سلطوية جديدة ستقود إلى فشل جديد، لا مؤسسات تقهر المواطن وتحاصر حريته باسم قيم عليا تتصور أنها سر كهنوتى.. لا مستقبل إلا ببناء دولة محترمة، الرئيس فيها موظف يدير مؤسسات الدولة، لا يعلو على الدولة، أو يكون ربّها الأعلى، هذه الدولة توفّر أسباب السعادة: تعليم، صحة، عمل، أمن بالعدالة ودون قهر ولا إهدار كرامة.. إذا لم تُبنى المرحلة القادمة على قواعد جديدة للمؤسسات والأفراد.. فلا تنتظر السلامة.
نقلاً عن "التحرير"