عماد الدين أديب
فى ربيع عام 1975، طلبت إجراء مقابلة صحفية مع وزير خارجية مصر -حينئذ- الدبلوماسى المخضرم إسماعيل فهمى للنشر فى جريدة «صوت الجامعة» التى كانت تصدر عن طلبة كلية الإعلام.
وقبيل إجراء المقابلة طلب منى الأستاذ إسماعيل فهمى -رحمه الله- أن أجلس مع مساعديه للتحضير للمقابلة.
وفى اعتقادى أن السيد إسماعيل فهمى كان يريد معرفة مستوى ذلك الطالب فى كلية الإعلام الذى يسعى لمقابلة صحفية معه، فالرجل لن يغامر بإجراء مقابلة مع طالب مغمور قد يكون جاهلاً بالموضوع الذى يسعى لإجراء الحوار حوله.
كانت مقابلتى فى غرفة جانبية مقابلة لمكتب الوزير كانت مكتباً لاثنين من مساعديه وهما عمرو موسى وأسامة الباز.
ومنذ ذلك التاريخ ارتبطت بعلاقة إنسانية قائمة على الحب والاحترام معهما.
كان أسامة الباز، الذى فقدناه بالأمس، نموذجاً لقمة التواضع والبساطة والتلقائية.
لم يكن الباز مهتماً بالتأنق مثل عمرو موسى ولم يكن مهتماً بنوع السيجار الذى يدخنه، بل كان يبتعد عن السيجار الكوبى الغالى الثمن ويسعى لشراء السيجار الهولندى أو الأمريكى الرخيص.
لم يكن غريباً أن ترى أسامة الباز يطلب من سائقه الخاص «كيلانى» أن يشترى له «واحد فول وواحد طعمية فى خبز بلدى مع القليل من الطرشى»!
يكفيك أن تنظر نظرة واحدة متفحصة لمكتب أسامة الباز لتجد أطناناً من الورق المنتظر على جانبى المكتب، وأطناناً من قصاصات الصحف العربية والأجنبية تملأ المكان.
هو وحده الذى كان يعرف مكان كل ورقة داخل تلك الفوضى العظيمة.
كان الرجل يبقى حتى ساعة متأخرة من الليل وحتى مطلع الصباح يتابع تطور الأحداث فى واشنطن حتى يكون على علم بدقائق تطورها حسب ساعات فارق التوقيت.
أسامة الباز خبير دبلوماسى متعدد الملفات، فهو متخصص عميق فى الشأن الأمريكى يعرف تفاصيله منذ أن كان طالباً فى الولايات المتحدة الأمريكية وأحد أبرز قادة اتحاد الطلاب العرب.
و«الباز» خبير حقيقى فى تفاصيل القضية الفلسطينية وكان صديقاً مقرباً من أبوعمار وأبومازن وأبوجهاد وأبوالهول وأبوإياد، مما مكنه من أن يكون رجل الصياغة الأول لتفاصيل معاهدتى كامب ديفيد واتفاقية السلام.
ويكاد يكون الباز هو الرجل الوحيد الذى لعب دوراً رئيسياً فى مكتب رئيس الجمهورية فى عهود عبدالناصر «مع سامى شرف» ومع السادات «مع حافظ إسماعيل» وفى عهد مبارك «مع الدكتور زكريا عزمى».
وكان الباز يقول لى «إنه يصف نفسه دائماً بأنه محترف سياسة دون تسييس».
وصل الباز «82 عاماً» إلى أعلى مناصبه فى عهد الرئيس حسنى مبارك، حينما تقلد منصب المستشار السياسى للرئيس، وكان يعهد إليه بالعديد من الملفات المعقدة داخلياً وخارجياً.
كان الباز وجهاً مقبولاً وقناة اتصال علنية وخلفية مع الكثير من رموز المعارضة المصرية.
آمن الرجل دائماً بالحوار والتفاوض كصيغة أساسية لإدارة الأزمات والوصول إلى تسوية حقيقية لها.
فى أعوامه الأخيرة وبعدها أصابه المرض اللعين، كان يصارع بشجاعة المرض وكان أيضاً يشعر بإحباط واكتئاب لأنه يرى أن عهد مبارك الذى شارك فى صناعته يتم اختطافه تجاه بعض أصحاب المصالح الخاصة أو المشروعات السياسية العقيمة.
كان الباز يؤمن بكفاءة وإخلاص مبارك، لكنه لم يكن يؤمن بكثير من رجال الدائرة الضيقة المحيطة به.
رحل عنا رجل عظيم، وسياسى قدير، ودبلوماسى لا مثيل له.
رحم الله أسامة الباز، الإنسان والصديق.
نقلاً عن "الوطن"