وائل عبد الفتاح
استقال المستشار أحمد مكى، بينما كنت مشغولا بحكايات عن يهود مصر، انشغال فى خلفيته محاولة معرفة كيف انتقل مشروع الدولة الحديثة بكل تعثراتها إلى دولة القبيلة. وهذا قلب الصراع الآن فى مصر. واستقالة مكى وقصته فى السلطة تتعلق بالانتقال وإن كان من مداخل أخرى.
كيف يمكن للأفكار الكبرى أن تتحول إلى ضدها؟ كيف لمن طلب استقلال القضاء أن يكون أداة فى يد من يريد إعادة احتلال القضاء؟
إنها السلطوية يا عزيزى.
وهنا لا أعتقد أن المستشار مكى دفع رصيده كاملا من أجل مكاسب أو مغانم، كما أن ما حدث فى شهوره القليلة داخل سلطة القضاء لم يكن تحولا رغم أنه كان صادما لكل من تلمع فى ذاكرته مشاهد معركة استقلال القضاء فى ٢٠٠٦.
لكن ما كان خفيا عند القطاعات المؤيدة لمجموعة الاستقلال فى ٢٠٠٦ انكشف تماما عندما أصبح مكى ومجموعته فى قلب السلطة بل و«مركزا مهما» من مراكز السيطرة. الموضوع ليس شخصيا ولا يرتبط فقط -كما أراه- بأن مكى كان عنصرا من العناصر النائمة للإخوان.. وبالتحديد ضمن قطاع يتولى فيه العنصر «ثغرا من ثغور» الدولة كما تسميها أدبيات «الإخوان». المهمة هنا التوغل فى الثغور التى كانت عصيَّة عليهم فى ظل سيطرة نظام مبارك، وليس أهم ولا أصعب من القضاء (وكانت هناك عناصر أخرى فى البوليس والجيش وغيرها من الأجهزة المهمة). موضوعى هنا ليس إثبات أو نفى أن مكى عنصر نائم فى «ثغر القضاء».. موضوعى تناولته من قبل فى مقال أحاول به أن أفهم ماذا حدث لمكى. لم يكن وقتها هناك بادرة لاستقالته، أو لإبعاده، أو لتخطيط مظاهرات تطالب بسقوطه كما حدث فى جمعة أرسل فيها خيرت الشاطر قطعانا من الجماعة للإيهام بأنهم ظهير شعبى لمذبحة قضاء جديدة. خيرت الشاطر قائد العمليات وصاحب الكلمة فى هذه اللحظات التى تعتبر «حربا مفتوحة من أجل الحفاظ على فرصة الرئاسة»، فى هذه الحرب انتصر خيار خيرت بالهجوم على القضاء فى إطار تسريع وتيرة السيطرة بقوانين وإجراءات تسهل عملية «تمكين» المرسى من كرسيه.
مكى هنا يمكن أن يكون كبش فداء إذا حاول أن يلعب دور «المهنى» أو «الخبير» الرافض للمذبحة (أول ضحاياها هم الـ٣ آلاف قاضٍ الذين فضح مهدى عاكف خطة الإطاحة بهم).. كما أن «المذبحة» هدفها إلهاء إن لم ينجح إخضاع الهيئات القضائية (خارج السيطرة) عن تعطيل قوانين السيطرة (القضاء والمظاهرات والانتخابات والاعتصامات وغيرها..) أو فرملة حملات الاعتقال (المتوقعة) بقرارات البراءة.
دور مكى هنا بلا فائدة.. فهو ليس أداة عادية، لكنها أداة تحاول الحفاظ على «شكلها» مثل أى سلطوى معتزل لا يحب تنفيذ الأوامر أو التصور بأنه مجرد «أداة..».
السلطوى يحب القدرة المطلقة فى تنفيذ ما يفكر به.. وهذا يعنى أن قدَر السلطوية فى بلد مثل مصر هو «الطريقة العسكرية» التى تعامل السلطة فيها الشعب على أنه جنود، والرئيس على أنه «الجنرال الوحيد» صاحب القدرة اللا محدودة فى تحقيق ما يريد.
والسلطوية (بهذا المفهوم) لا تتسع إلا لجنرال واحد.. وهو هنا ليس المرسى ولكن مَن أرسله إلى القصر، وستتكسر فى لحظات الأزمة كل النفسيات التى تكمن فيها مشاعر «الجنرال» لكنها تصطدم بحجم القدرة.
وهنا يبدو مكى درسا كامل الأوصاف لمصير رجل صُدم الناس فيه عندما رأوا الكائن السلطوى الكامن داخله.
وكما كتبت من قبل هناك فرق كبير بين السياسى والسلطوى. السياسى لاعب لا وجود له إلا فى الملعب، أى بتعدد اللاعبين، ويدرك بقانون السياسة أنه لا لعب إلا بالاعتراف بالآخرين، ودون هذا الاعتراف يلغى اللعب ويتحول إلى تقسيمة أو صراعات داخل القصور على من يقتل خصمه أولا.
السياسة ليست الكذب أو اللوع لكنها اعتراف بوجود الآخرين وأحقيتهم فى المشاركة، ولهذا فإن كلام السياسى يظل محل مراجعة عكس كلام السلطة التى ينزل كلامها من أعلى وهو جزء من هيبتها أو قدرتها على التنويم المغناطيسى للجماهير المنتظرة كما كان يفعل هتلر ومَن سار على دربه.
يمكن للسياسى إذن أن يصل للسلطة لكنه يعرف أنه عابر فى فترة مهما طالت عابرة، وهذا ما يجعله يمارس هذه السلطة بهذا الوعى.
وعدم إدراك الفرق بين السياسى والسلطوى هو تقريبا ما يفسر تغير شخصيات كانت محل احترام بمجرد عبورها عتبة السلطة.
وهذه نقطة تحتاج إلى مزيد من التأمل.