توقيت القاهرة المحلي 21:48:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الإرهاب الجديد والشر المبتذل

  مصر اليوم -

الإرهاب الجديد والشر المبتذل

بقلم - السيد ولد أباه

في تحقيق بحثي مطول حول الإرهاب الجديد، خلصت مجلة New Scientist البريطانية (بتاريخ 6 سبتمبر 2017) إلى أن ظواهر العنف الراديكالي الجديدة لا يمكن تفسيرها بأي عامل حاسم ومحدد، سواء تعلق الأمر بالتطرف الديني أو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية أو الاضطراب النفسي، بما يجعل معالجة ومواجهة هذه الظواهر صعبة ومعقدة. في هذا السياق، استشهدت المجلة برأي «مارك سيجمان» وهو عميل سابق لوكالة المخابرات الأميركية الذي أصدر كتاباً بعنوان «الوجه الحقيقي للإرهابيين»، استند فيه إلى خبرته الميدانية الطويلة ودراسته لـ172 حالة من حالات الإرهاب الموسوم بالجهادي (إرهاب المجموعات الإسلامية المتشددة)، وانتهى فيه إلى القول إن الإرهابي ليس له خاصية مميزة ولا سمة محددة، بل «إن الإرهاب في حد ذاته لا يوجد، وإنما يوجد أفراد يقومون بعمليات إرهابية».

نفس الرأي توصلت إليه الباحثة المرموقة «مارتن كرنشو» التي قدمت حصيلة كاملة لتجارب الإرهاب طيلة قرن، بدءاً من إرهاب الفوضويين الروس في القرن التاسع عشر، إلى الإرهاب الأيرلندي والباسكي والإسرائيلي في القرن العشرين، معتبرة أن ما يجمع بين مختلف هذه الظواهر هو السمة العادية للإرهابي الذي هو في الغالب شخص طبيعي لا يختلف عن غيره من عموم البشر.

وبالوقوف عند أخطر الظواهر الإرهابية المعاصرة، أي الحالة «الداعشية» المهزومة، استنتج التحقيق أن الأفراد الذين استقطبهم التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا هم في مجملهم من الأفراد العاديين، ونادراً ما تلعب العاطفة الدينية دوراً أساسياً في انتمائهم للجماعة الراديكالية، فهم في أغلبهم موظفون يؤدون وظائف إدارية أو تقنية مدفوعة الأجر أو أشخاص مستفيدون من اقتصاد التهريب والجريمة الذي ترعاه «الدولة»،وجل قادة التنظيم هم من أبناء الطبقات العليا والوسطى المتعلمين القادرين على استمالة الجمهور العريض بخطاب عقلاني أو تعبوي ديني فعال.

‏ما توصل إليه التحقيق يُحيلنا إلى الملاحظة التي أبرزتها الفيلسوفة الألمانية - الأميركية «حنة آرندت» في تحقيقها الشهير حول محاكمة المجرم النازي الألماني «إيخمان» في إسرائيل عام 1961 عندما كشفت أن الجرائم النازية تدخل في نطاق الشر المبتذل Banality of Evil، أي الشر الذي تحول إلى مهنة بيروقراطية إدارية عادية ضمن نسق طبيعي يؤدي فيه الجلاد القاتل دوراً فنياً عادياً لا يختلف عن غيره من الوظائف البيروقراطية. «إيخمان» كما تبين «آرندت»، لم يكن له وجه بطل قاتل، ولا حتى مجرم مخيف، بل هو شخص تافه يثير الشفقة لا يستشعر حجم الفظائع التي ارتكبها، وإنما يعتبر نفسه موظفاً يؤدي مسؤوليته الإدارية العادية. لا يختلف الشخص الإرهابي في جرائمه الوحشية عن المجرم النازي، عندما يحول القتل العشوائي إلى أداة لممارسة «السياسة» ومواجهة الخصم وإبلاغ «الرسالة».

العنف الراديكالي يتحول وفق هذا المنظور إلى شر مبتذل من وجهين، أولاً: من حيث طبيعة العمل الإرهابي نفسه، الذي يلغي كل الأبعاد الزمانية والمكانية للمواجهة في نمط الحرب التقليدية التي كان لها مسرحها وزمنيتها وضوابطها الإجرائية والمعيارية، فالحدث الإرهابي لا زمان له ولا مكان، يمكن أن يحدث في أي موقع، وأي لحظة، ومن هنا ابتذاله ووجاهة تشبيهه بالكارثة الطبيعية غير المتوقعة (حسب وصف القانوني أنطوان كارابون والفيلسوف ميشال روزنفلد في كتابهما «الديمقراطيات القلقة»).

ثانياً:من حيث وصفه وتقويمه، فلا هو بالعمل السياسي ولا الحرب التقليدية، كما أنه ليس بالجريمة المنظمة المألوفة، ومن الصعب تمييزه عن عمليات «القتل الجماعي»، التي تكاثرت بوتيرة سريعة في الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة. ومن هنا الصعوبة البالغة في مواجهة الجماعات الإرهابية التي تغير بانتظام واجهتها وتركيبتها المجتمعية وأدوات اشتغالها العملية.

لا خلاف أن التطرّف الديني هو البيئة الحاضنة للإرهاب الراديكالي الجديد، بيد أن الخطورة هنا هي أن ثقافة الكراهية والإقصاء نفذت على نطاق واسع إلى المتخيل الشعبي العام، إلى حد أنها لم تعد تثير الاستغراب والرفض مثل الأحكام الفقهية التكفيرية الشاذة، وأدبيات الإسلام السياسي المتعلقة بموضوع الشرعية ومقاربة الشريعة، مما هو منتشر مبثوث في الإعلام الفضائي والإلكتروني.

ما نخلص إليه هو أن الإرهاب انتقل من صورة الحدث الاستثنائي إلى ظاهرة مألوفة، وإنْ تغيرت وجوهها وتبدلت صيغها، وذلك ما نعنيه بعبارة ابتذال الشر التي بلورتها الفيلسوفة «حنة آرندت» في سياق مغاير.

نقلا عن الاتحاد الاماراتيه

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الإرهاب الجديد والشر المبتذل الإرهاب الجديد والشر المبتذل



GMT 04:56 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

المستفيد الأول إسرائيل لا إيران

GMT 04:15 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

الغضب الساطع آتٍ..

GMT 04:13 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

جبر الخواطر.. وطحنها!

GMT 04:11 2024 الجمعة ,19 إبريل / نيسان

عامٌ يبدو أنه لن يكون الأخير

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:49 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
  مصر اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 08:00 2024 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

القمر في منزلك الثامن يدفعك لتحقق مكاسب وفوائد

GMT 11:11 2017 الخميس ,14 كانون الأول / ديسمبر

قمة "كوكب واحد" تكرس ماكرون رئيسًا لـ"معركة المناخ"

GMT 18:46 2017 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

دار Blancheur تعلن عن عرض مميز لأزياء المحجبات في لندن

GMT 16:21 2021 الجمعة ,11 حزيران / يونيو

ليفربول يودع جورجينيو فينالدوم برسالة مؤثرة

GMT 10:19 2018 الأحد ,21 كانون الثاني / يناير

3 قلوب ينبض بها عطر "أورا" الجديد من "موغلر"

GMT 09:59 2018 الخميس ,18 كانون الثاني / يناير

مجدي بدران ينصح مرضى حساسية الأنف بعدم الخروج من المنزل

GMT 03:10 2017 الثلاثاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

صناعة الجلود في المغرب أصالة تبقى مع مرور السنوات

GMT 16:04 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر صحفي للشركة صاحبة حقوق بيع تذاكر المونديال

GMT 00:34 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

مهاجم ليرس البلجيكي يطلب فرصة مع منتخب مصر

GMT 18:49 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

مانشستر يونايتد يعرض 50 مليون إسترليني لضم "بيل"

GMT 06:32 2015 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

طريقة عمل السيفيتشي بالسلمون

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

اختيار البنا حكمًا لمباراة فريقي "الرجاء" و"دجلة"

GMT 23:41 2016 الأربعاء ,09 آذار/ مارس

فوائد فاكهة التنين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon