توقيت القاهرة المحلي 13:52:52 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الباحثون في زبالة التاريخ

  مصر اليوم -

الباحثون في زبالة التاريخ

بقلم - نصرمحمد عارف

التاريخ مخزون تجربة الأمم، مصدر إلهامها، ومنبع للدافعية الحضارية فيها، التاريخ هو ميراث المجتمع، تركه الآباء والأجداد ليستعين به ومنه الأبناء والأحفاد على واقعهم ومستقبلهم، التاريخ هو الثروة المعنوية لكل أمة. فهناك أمم غنية، وأمم فقيرة في ثرواتها التاريخية. التاريخ ثروة صامتة جامدة، نحن من نفعلِّها، ونحييها، وننتقي منها ما يعيننا على تحديات واقعنا، وما يساعدنا على العبور نحو مستقبلنا، التاريخ ميراث أو تراث لم يتم تصنيعه خصيصا لنا، هم صنعوه لأنفسهم، ولكنهم رحلوا، فوصل إلينا رغم عنهم، أو بإرادتهم، لكنه لم يكن مصممًا ليجيب عن أسئلتنا، أو ليواجه تحدياتنا، التاريخ هو التاريخ، لا يد لنا في صناعته، ولا قدرة لنا على تغييره.. لكن نحن أحرار في توظيف أفضل ما فيه، واختيار أنفع ما فيه، لتحقيق أهدافنا في حاضرنا أو مستقبلنا، دون أن نهيل التراب على ما لا نريد، لأنه ملك لأجيال، وقرون قادمة، قد يكون ما نرفضه اليوم من التاريخ نافعا لهم في سياق آخر، أو زمان آخر، أو مكان آخر. التاريخ هو عبارة عن حاضر قوم آخرون تجاوزه الزمن، بمعني أن حاضرنا، ومجتمعنا اليوم بكل ما فيه هو تاريخ في مرحلة التصنيع لأجيال قادمة، أي أن التاريخ هو عبارة عن حركة تلقائية لمجتمع معين في لحظة معينة تم تحنيطها وحفظها، فجاء جيل آخر في زمن تالٍ لينظر فيها، ويستفيد منها، لذلك نجد الأمم الحية المتقدمة تحتفي بتاريخها، وتفخر به، رغم أن فيه من المساوئ والعيوب ما تقشعر منه الأبدان، لأن البشرية لا تستطيع أن تعيش الحاضر بدون عمق تاريخي، فلا يوجد مجتمع يمكنه أن يعيش حاضره، وتكون له ذات وهوية، دون أن يكون له تاريخ يفخر ويعتز به، ومن ليس له تاريخ ينسب نفسه لأقرب تاريخ من قومه، حتى لا يكون معدوم الوجود فاقد الهوية منزوع الذات. تعارفت الأمم على أن يكون التاريخ أفكارا وأحداثا وأشياء وأشخاصا، هذه الأربعة جوانب سماها المفكر الجزائري المرحوم مالك بن نبي العوالم الأربعة وهي: أولاً، الأفكار هي ما تركه الأقدمون من تراث فكري ديني، أو أخلاقي، أو فلسفي، أو علمي، أو سياسي، واجتماعي، والأمم تعتبر ذلك معينا فكريا لها تأخذ منه أفضل ما فيه، فالأوروبيون مثلا أخذوا أفضل ما في الفكر الإغريقي والروماني، ولم يلتفتوا كثيرًا إلى الخرافات والأساطير. وثانيا، الأحداث هي المعارك والبطولات التي تدخل في تشكيل أمجاد كل أمة من الأمم، لذلك تحتفل الأمم ببطولاتها، وتحاول تجاوز أو تجاهل هزائمها، فلا نجد أمة من الأمم تحتفي بالهزائم. وثالثا، الأشياء وهي المخترعات، والآثار والأدوات التي تحتفي وتحتفل بها جميع الأمم وتنشئ لها المتاحف، حتى إن البريطانيين قد أنشأوا متحفا لأدوات التعذيب في السجون، وهم أول دعاة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، وأخيرا، الأشخاص، فالأمم تعتز بأبطالها، ورموزها الفكرية والعلمية والسياسية والعسكرية. ولنركز على موضوع الأشخاص في التاريخ، حيث نجد أن الأمم جميعها تعتز برموزها، وتصنع لهم التماثيل، وتقدمهم للأجيال المتتالية على أنهم رموز وقدوة؛ لدفع الأجيال الجديدة على التعلق بإنجازاتهم وبطولاتهم، وأمجادهم لعلهم يكونوا مثلهم، وكما هو معروف ليس هناك شخص في التاريخ أو الواقع كامل الأوصاف وخالي من العيوب إلا الأنبياء والرسل، لذلك كل الرموز التاريخية لجميع الأمم فيها من العيوب ما يخجل منه، ولكن من ينقل سيرتهم للأجيال الحاضرة والقادمة لا يركز على العيوب وإنما يضخم المزايا، لأن الهدف هو صناعة هوية للأمة، وتربية أجيال على هذه الهوية، وخلق الدافع والحافز في قلوب وعقول الأجيال الجديدة من خلال تقديم نماذج للقدوة من الواقع التاريخي. مثلا جورج واشنطون الأب الروحي للأمريكان كان مجرما من أكابر مجرمي الأرض قتل من الهنود الحمر عشرات الآلاف، وغدر بهم، وخان عودهم، ودفنهم تحت مبنى الكونجرس، ووضع تمثال لهندي أحمر فوق قبة الكونجرس، لكن هذا الجانب لا يذكره أحد، ولا يتم تقديمه للثقافة العامة، يعرفه المتخصصون، ولا يذيعونه، كذلك كان جورج واشنطون ماسونيا متعصبا، أصر على أن يلبس الزي الماسوني عند وضع حجر الأساس للكونجرس، وعند توقيع الدستور، وهذا أيضا لا يذكره أحد، وملوك بريطانيا وملكاتها لهم من المغامرات والأخطاء ما يندى له الجبين، ولكن كل ذلك لا يتم ذكره، تقدم هذه الشخصيات الرموز في صورة ناصعة، لأنها قدوة ومثل أعلى للأجيال القادمة. خلاصة القول إن التعامل مع التاريخ ليس مقصودا به التاريخ ذاته، فذلك متروك للمؤرخين في قاعات البحث والدرس، أما ما يقدم للثقافة العامة فهو الجانب الإيجابي فقط، هذا يحدث مع جميع الأمم، إلا في مصر. فقد ابتليت مصر بمجموعة من النرجسيين الذين تضخمت ذواتهم بعد أول عمل فكري كتبت عليه أسماؤهم، بعد أن نشر الواحد منهم كتابا أو مقالا تحول إلى إله في ذاته، رغم أنه نصف عالم، أو ربع باحث، أو خمس مثقف، لذلك هو في أحسن الأحوال نصف جاهل، إذا ما اعتبرناه نصف عالم، لأن نصف العالم نصف جاهل في ذات الوقت، تحول هؤلاء الى زبالين، لا يبحثون في التاريخ إلا على مواطن الزبالة، وللأسف أُتيحت لهم الفرصة، وفتحت لهم القنوات الفضائية لنشر زبالة التاريخ على مسامع الأجيال الجديدة لإفقادها الثقة في تاريخها وشخصياتها ورموزها، بدون هدف، وبدون غاية إلا أن يظهر الواحد منهم أنه اكتشف شيئا جديدا لم يصل إليه أحد قبله، بنفس عقلية المراهقين الذين يحبون التظاهر والتفرد والتميز، فأصبحنا كل يوم نسمع من واحد من الباحثين في زبالة التاريخ طعنا في شخصية ما علي طول تاريخنا وعرضه، بدون أن يقولوا لنا ما الفائدة من الطعن في أحمد عرابي أو محمد فريد أو مصطفى كامل أو غيره إلا مزيد من تدليك وتدليل الذات المتضخمة للصغير المتخصص في البحث في زبالة التاريخ. أذكر في عام 1984 وفي محاضرة في تمهيدي الماجستير؛ فعلت مثلما يفعل هؤلاء الباحثون في زبالة التاريخ، فذكرت أشياء سلبية عن زعيم ثورة 1919 سعد زغلول تتعلق بأخيه فتحي زغلول، فعلق أستاذي الدكتور علي الدين هلال على كلامي بالقول إن الأمم تحتاج إلى رموزها أكثر من حاجتهم لها، فقد رحلوا، ونحن نحتاج لوجودهم في حياتنا، ولا فائدة من تشويه صورتهم، وإن المثقف الحقيقي هو من يهتم باحتياجات مجتمعه، ولا ينقب في تاريخ أمته على نقاط الضعف ومواطن السوء، وإذا عرفنا عنهم شيئا لا يسرنا لا ننشره لأن تأثيره على المجتمع خطير، لأنه يفقد المجتمع الثقة في الذات، ويضعف أحلامه وطموحه… ليت الباحثين في زبالة التاريخ كانوا حاضرين في تلك اللحظة.

 

 

نقلا عن موقع صحيفه التحرير القاهريه

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الباحثون في زبالة التاريخ الباحثون في زبالة التاريخ



GMT 07:42 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

الصفحات الصفراء

GMT 03:54 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

عاربون مستعربون: لورانس العرب والصحراء

GMT 03:51 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

هل من أمل في مفاوضات سودانية؟

GMT 03:47 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

سلِّموا السلاح يَسلم الجنوب!

GMT 03:41 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

برنامج «إنجيل» متهم بالإبادة الجماعية

الملكة رانيا بإطلالات شرقية ساحرة تناسب شهر رمضان

عمان ـ مصر اليوم

GMT 02:02 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

الملكي يتقدم 1-0 قبل نهاية الشوط الأول ضد ألكويانو

GMT 10:15 2021 الإثنين ,18 كانون الثاني / يناير

للمرة الثانية أسبوع الموضة في لندن على الإنترنت كلياً

GMT 14:16 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

الحكم في طعن مرتضى منصور على حل مجلس الزمالك

GMT 09:20 2020 الأحد ,13 كانون الأول / ديسمبر

طريقة لتبييض الأسنان ولإزالة الجير دون الذهاب للطبيب

GMT 08:52 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه المصري اليوم السبت

GMT 02:02 2020 الأربعاء ,14 تشرين الأول / أكتوبر

مصر على أتم الاستعداد لمواجهة أى موجة ثانية لفيروس كورونا

GMT 09:09 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسني يؤكد لو تم علاج ترامب في مصر لكان شفائه أسرع

GMT 14:47 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

أستون فيلا يعلن عن تعاقده مع أغلى صفقة في تاريخه

GMT 04:36 2020 الخميس ,20 شباط / فبراير

ابن الفنان عمرو سعد يكشف حقيقة انفصال والديه

GMT 04:46 2019 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

هنا الزاهد بإطلالة جريئة في أحدث ظهور لها

GMT 09:51 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

"أدنوك أبوظبي" يحتفل باليوم الوطني للإمارات

GMT 18:05 2019 السبت ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

"ويفا" يُعلن طرح مليون تذكرة إضافية لجمهور "يورو 2020"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon