د. جودة عبد الخالق
أعزائى القراء، ربما انتظرتم منى أن أتحدث عن التعديل الوزارى الأخير. و هذا منطقى. لكنى أعتذر إن خيبت ظنكم و انصرفت عن ذلك إلى ما هو خير و أبقى.- أقصد الأمن القومى لأم الدنيا. ما هو الرقم الأصعب فى معادلة أمننا القومى؟ قد يتصور البعض أن هذا الرقم مرتبط بمكافحة الإرهاب. و فى هذا بعض الصواب. و قد يرى أخرون أنه متصل بالأمن المائى. و هذا أيضا صحيح. فكل هذه أرقام صعبة فى المعادلة. لكن الرقم الأصعب فى رأيى هو الأمن الغذائى. أكرر: الأمن الغذائى هو أصعب الأرقام فى معادلة الأمن القومى للمحروسة. و يتفرع عن ذلك أن إنتاج القمح يرقى إلى مستوى الأمور الاستراتيجية بامتياز. و هنا، فإن المساحة المزروعة و إنتاجية الفدان هما بيت القصيد. لذلك أزعجنى جدا تصريح منسوب إلى وزير الزراعة (الأهرام 5/1/2018) بأن إجمالى المساحة المزروعة قمحا حتى تاريخه بلغت 2.8 مليون فدان. و توقع سيادته أن تصل إلى 3.25 مليون فدان حتى نهاية الموسم!
لماذا انزعجت جدا؟ ببساطة، لأنه يبدو أن قضية الأمن الغذائى ليست من أولوياتنا رغم أنه ركيزة الأمن القومى. و أسوق عدة دلائل على ذلك. الأول، أن الوزير المسئول لا يعرف مساحة القمح على وجه الدقة حتى بعد إنتهاء موسم زراعته. و الثانى، أن وزارة الزراعة لا يمكنها تدبير تقاوى عالية الغلة إلا لحوالى 30% فقط من مساحة القمح، مما يرغم المزارعين على استخدام تقاوٍ من إنتاج العام الماضى (التى تكون بطبيعتها أقل الغلة). و الثالث، أن الفلاح يتعرض للاستغلال بسبب إنفلات سوق توزيع مستلزمات الإنتاج و فساد الجمعيات الزراعية. فمثلا، الجمعية تقدم للفلاح كمية سماد يوريا غير كافية بسعر 150 جنيها للشيكارة فيضطر لشراء الباقى من السوق بسعر حوالى 200-250 جنيه للشيكارة. و الرابع، أن الحكومة لم تعلن سعر شراء القمح حتى الآن و بالتالى اضاعت فرصة استخدام السعر لتحفيز الفلاحين. و بالمقارنة، عندما كنت وزيرا، كنا نعلن السعر قبل بداية موسم الزراعة مع مراعاة أن يكون أعلى من السعر العالمى لتحفيز الفلاح. فزادت مساحة القمح زيادة ملموسة، و زاد إنتاجنا من القمح.
إن مصر هى أكبرمستورد للقمح فى العالم. و هذا يجعلنا عرضة للضغوط من جانب الدول المصدرة و يهدد أمننا القومى. و لنأخذ كمثال الولايات المتحدة، شريكنا الاستراتيجى كما يقول مسئولونا. ففى الخمسينيات عرقلت إنشاء السد العالى: سحبت عرضها بالمساهمة فى التمويل، و حرضت إثيوبيا و السودان للاعتراض على المشروع. و فى الستينيات أوقفت شحنات القمح المتعاقد عليها معنا. و كان الهدف فى الحالتين هو الضغط على مصر لتغيير سياساستها الداخلية و الخارجية. إن استمرارالاتجاه الحالى فى التركيز على العقارات و مستثمريها و إهمال الزراعة و منتجيها، و بالذات فى مجال القمح، يحمل مخاطر عظيمة على أمننا القومى. و فى هذا السياق، فنحن بحاجة ماسة لاسترجاع دروس تاريخنا و العمل بناء على ذلك لحماية أممنا. لذلك خاب أملى عندما لم يمس التغيير الوزارى الأخير قطاع الزراعة- على الأقل بتعيين نائب للوزير للأمن الغذائى. و أنا هنا ألح قى هذا الطلب كضرورة لحماية أمننا القومى.
لكن يمكننا تحويل مركزنا فى سوق القمح من نقمة إلى نعمة. و أستدعى بهذه المناسبة تجربتنا فى استخدامه كورقة ضغط لمصلحة مصر. ففى عام 2011 أوقفت روسيا دخول البطاطس المصرية بإدعاء أنها مصابة بالعفن البنى. و كنت وقتها المسئول عن استيراد القمح بصفتى وزير التموين بعد ثورة 25 بناير. فدعوت الممثل التجارى لسفارة روسيا فى القاهرة، الذى كنت قد تعرفت عليه أثناء حفل موسيقى. بدأت اللقاء بحديث عن إهتمامنا المشترك، وهو الموسيقى. ثم تعمدت أن أذكر له أننى كنت أسأل أحد أقاربى من الفلاحين الغلابة عن أحوالهم. و أضفت أن قريبى إشتكى من بؤسهم بعد إنهيار سعرالبطاطس نتيجة وقف الروس إستيرادها. و قلت لضيفى أننى كوزير مسئول فى موقف حرج: فأنا أعقد صفقات هائلة لشراء القمح منكم وأنتم تمنعون دخول البطاطس المصرية. قصدت التلويح بورقة القمح مقابل ورقة البطاطس، تطبيقا لنظرية المصالح المتبادلة فى السياسة الدولية. شرب الرجل القهوة، و فهم الرسالة. فبعد عدة أيام إتصل بى ليخبرنى أنهم إكتشفوا خطأِ فى قراءات المعامل الخاصة بعفن البطاطس. و أضاف معتذرا: أهلا بالبطاطس المصرية!
حكمة اليوم
الويل لآُمَّةٍ أكلت خبزا لم تزرعه،
و لَبِسَت ثوبا لم تصنعه.
(جبران خليل جبران)
عن الاهالي القاهريه