توقيت القاهرة المحلي 02:35:06 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الكلام الكيماويّ

  مصر اليوم -

الكلام الكيماويّ

بقلم : حازم صاغية

 ضُرب أهل دوما، وسوريّون غيرهم، بالكلام الكيماويّ قبل أن يُضرَبوا بالسلاح الكيماويّ. الكلام الكيماويّ له أشكال كثيرة: حين سُكّ تعبير «سوريّة المفيدة»، وحين وُصف نزوح النازحين بأنّه يجعل الشعب أكثر تجانساً، وحين نُعتت أكثريّة السوريّين بـ «الإرهاب» و «التكفير» و «الإسلاميّة»... هذا كلّه كان كلاماً كيماويّاً. إنّه يقوم على نوع من التبويب الماهويّ الذي تكون تتمتّه القتل. مؤدّى هذا المنطق: أنتم فئران وحشرات، وللفئران والحشرات علاج واحد: الرشّ بالكيماويّ. أهميّة هذا العلاج تتضاعف حين تعاند الحشرة رافضةً أن تستسلم: حشرة وترفض؟ إذاً، فليكن الكيماويّ مضاعَفاً.

إدانة التبويب ليست رفضاً شعبويّاً لعلوم اجتماعيّة وتجريبيّة تميّز معرفيّاً داخل المجتمع الواحد: تميّز تبعاً للجنس والعمر والدخل والتعليم والدين والطائفة والإثنيّة... المقصود بالتبويب الذي يقترحه الكلام الكيماويّ ذاك التأويل الأيديولوجيّ المسبق الذي يلغي كلّ نشاط تجريبيّ وكل امتحانات الواقع. إنّه يصدر عن مُركّب وعي طائفيّ– طبقيّ شُيّد وراء سور كثيف يفصله عن البرابرة– البرابرة المحكومين فحسب بشرطهم البربريّ.

بالطبع، لا تزال النازيّة والشيوعيّة النموذجين الأشدّ تعبيراً واكتمالاً عن هذا الوعي: الأولى في تبويبها البشر تبعاً لداروينيّة مشوّهة. الثانية في اعتمادها «قوانين التاريخ» لتبويب البشر وموضَعَتهم.

ولأنّ هذا «الفكر» لا يرى الواقع، ولا يُعنى بدلالاته، فهو يمضي متماسكاً في خرافته المغلقة إلى ما لا نهاية. إنّه، على عكس الحركات الثوريّة التي تريد تحويل المجتمعات، يسعى إلى تحويل الطبيعة الإنسانيّة نفسها بما يلائم «قوانينه». أمّا النهاية الكابوسيّة التي يفضي إليها «الفكر» المذكور فهي جعل البشر فائضين عن الحاجة، أو عن اللزوم، وفقاً لتعبير شهير لهنه أرنت. ذاك أنّ القتل هو الدواء المنطقيّ لهؤلاء الواقعين خارج ضفّة الخرافة، الضالعين جوهريّاً في الشرّ والتخلّف وفي ما كان يسمّيه هاينريش هملر «روحيّة العبيد».

طبعاً سيكون من المبالغة أن نفترض امتلاك النظام الأسديّ المتهافت تماسكاً خرافيّاً من النوع النازيّ أو الشيوعيّ. لكنْ ليس من المبالغة النظر إلى عقل ذاك النظام بوصفه جَمْعاً لنُتَف مبعثرة من الخرافتين الفاشيّة والشيوعيّة. وليس صدفة أنّ القوى والأحزاب المتفرّعة عن هاتين الخرافتين، والتي لا تزال مقيمة فيهما، تلتقي عند تأييد بشّار الأسد وسياساته الكيماويّة.

وقد نضيف خرافة أخرى بدأت، منذ 2005، تؤثّر في التكوين العقليّ للنظام المذكور: إنّها ما ينجرّ عن النيوليبراليّة من تبويب لا يقلّ ماهويّةً، تبويبٍ يفصل الناجح عن الفاشل والقويّ المقتدر عن الضعيف المهيض الجناح. وأيضاً ليس صدفة أنّ رجال الأعمال وكبار المليونيريّين يقفون حيث تقف الغالبيّة الكاسحة من «قوميّين وتقدّميّين ويساريّين» على أنواعهم.

لكنّ ما حضّ على تسريع الانتقال من الكلام الكيماويّ إلى الفعل الكيماويّ عنصران: أنّ النظام عاجز فيما هو ينتصر. إنّه الصلعاء التي تتباهى بشَعر جارتيها الروسيّة والإيرانيّة، مدركةً أنّ رأسها لا يُنبت شعراً، وأنّ الفجور والتوحّش هما القبّعة والستر.

أمّا العنصر الثاني فأنّ العالم يجيز التوحّش الفاجر. انهيار «الخطّ الأحمر» الأوباميّ كان محطّة بارزة في هذه الإجازة. أمّا ضرب مطار الشعيرات بالأمس، ومطار تيفور اليوم، فقليل جدّاً ومتأخّر جدّاً بقياس الكيماويّ وأشكال القتل الكثيرة الأخرى. هذا في انتظار أن يقنعنا ترامب وماكرون بالعكس.

لقد حوّل الأسدان سوريّة إلى سجن، والسجن الأسديّ نصف الطريق إلى موت السجين. في موازاة ذلك، أسّست لغة «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» قاعدة صواريخ لغويّة ومفهوميّة ينطلق منها اليوم الكلام والفعل الكيماويّان سواء بسواء. هذان ليسا شيئين منفصلين. إنّهما الشيء عينه.

نقلاً عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الكلام الكيماويّ الكلام الكيماويّ



GMT 07:42 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

الصفحات الصفراء

GMT 03:54 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

عاربون مستعربون: لورانس العرب والصحراء

GMT 03:51 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

هل من أمل في مفاوضات سودانية؟

GMT 03:47 2024 الخميس ,28 آذار/ مارس

سلِّموا السلاح يَسلم الجنوب!

الملكة رانيا تُعيد ارتداء إطلالة بعد تسع سنوات تعكس ثقتها وأناقتها

القاهرة - مصر اليوم

GMT 09:41 2019 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

"قطة تركيّة" تخوض مواجهة استثنائية مع 6 كلاب

GMT 09:12 2020 الثلاثاء ,07 إبريل / نيسان

هاشتاج مصر تقود العالم يتصدر تويتر

GMT 12:10 2020 السبت ,18 كانون الثاني / يناير

رفيق علي أحمد ينضم إلى فريق عمل مسلسل "عروس بيروت"

GMT 03:39 2020 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

مادلين طبر تؤكد أن عدم الإنجاب هي أكبر غلطة في حياتها

GMT 18:39 2020 الأحد ,05 كانون الثاني / يناير

التفاصيل الكاملة لحريق شقة الفنانة نادية سلامة.

GMT 05:47 2019 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على سعر الجنيه المصري مقابل الدينار الاردني الأحد

GMT 13:22 2019 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

قائمة "نيويورك تايمز" لأعلى مبيعات الكتب

GMT 20:50 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

مقلوبة لحم الغنم المخبوزة في الفرن
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon