توقيت القاهرة المحلي 08:01:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حتى لا ننسى

  مصر اليوم -

حتى لا ننسى

عمرو الشوبكي

كثير منا أصيب بالصدمة من سوء أداء النخبة السياسية بعد الثورة، ومعظمنا سئم من المراهقة الثورية للبعض، ودهش من حجم التسطيح فى ثقافة قطاع واسع من الشباب الذى تربى فى عهد مبارك فتعلم كيف يشتم ويهدم ولم يعرف كيف يبنى، أما الأسوياء بكل اتجاهاتهم السياسية فصُدموا من «أخلاق الدعاة الشتامين» بتعبير صحيفة التحرير، أمس، ومن البذاءة غير المسبوقة لعدد من مدعى التدين الذين كان تمامهم لدى الأجهزة الأمنية، وحين غابت الأخيرة أخرجوا أسوأ ما فيهم دون أى حياء. البعض حمّل بشكل صريح أو ضمنى الثورة مسؤولية ما نحن فيه، والبعض الآخر حمّل المجلس العسكرى، والبعض الثالث حمّل الإخوان المسلمين، والرابع حمّل التيارات المدنية والائتلافات الثورية، والحقيقة أنه قد يكون بعض أو كل هؤلاء مسؤولين عن أوضاعنا السيئة، ولكن السؤال الذى يجب أن يطرح: من الذى أنتج هؤلاء بهذه الصورة وهل كل هذه القوى هبطت فجأة بعد الثورة على مصر من الفضاء، أم هم نتاج عصر مبارك الذى يتحمل هو دون غيره المسؤولية الأولى عما نحن فيه؟ هناك مساران يحكمان عملية التغيير فى أى مجتمع من المجتمعات: الأول هو قدرة النظام على أن يصلح نفسه بنفسه عن طريق وعى أجنحة داخل النخبة الحاكمة بضرورة إجراء إصلاحات سياسية كما جرى فى عشرات التجارب من إسبانيا فى عهد فرانكو إلى تركيا فى عهد تورجت أوزال، وهناك مسار آخر يضطر فيه النظام إلى إجراء إصلاحات سياسية بفضل الضغوط الشعبية والانتفاضات الجماهيرية، أما نموذج الثورة الغاية الذى حلم به بعض الشباب وفيه تهدم مؤسسات الدولة من أجل بناء أخرى ثورية ونقية فهو نموذج يمكن أن تحلم به طول العمر لأنه لم يحدث فى الواقع فى أى تجربة ناجحة طوال ما يقرب من نصف قرن. والحقيقة أن كارثة نظام مبارك تكمن فى أنه أضاع على مصر فرصة إجراء أى إصلاحات سياسية من أى نوع وظل جاثماً على صدور الناس 30 عاما، ويردد حتى الآن أن غيابه يعنى الفوضى، ويتناسى أنه بسبب سياساته الفاشلة مسؤول مسؤولية أولى عن كل مظاهر الفوضى وانعدام الكفاءة التى نراها الآن. إن أحد العوامل الرئيسية وراء الانتصار السهل للثورة المصرية يكمن فى ضعف وهشاشة نظام مبارك، خاصة بعد حالة التجريف الشاملة التى فرضها على البلاد، فأقصى طموح لقطاع واسع من المصريين يوم 25 أو 28 يناير كان هو رحيل مبارك وإنهاء مشروع التوريث، ولو كان مبارك لم يجرف النخبة السياسية فى مصر، ويبعد الأذكياء والأكفاء عن أى منصب لكنا وجدنا عشرات الأشخاص يحلون مكانه يوم 11 فبراير، ويبدأون عملية التحول الديمقراطى. هل يعقل أن مصر التى كانت قوتها فى طاقتها البشرية ونخبتها العملية والسياسية، لا تجد إلا الراحل عمر سليمان 75 عاما ليعين نائباً للرئيس، وكان خطابه طوال الـ 18 يوماً من عمر الثورة نسخة مكررة من مبارك، أو المشير طنطاوى 77 عاما، الذى ظل لأول مرة فى تاريخ الجيش المصرى والعالم وزيرا للدفاع 22 عاماً، بحيث انعدمت قدرته على المبادرة والتفكير خارج الصندوق؟! من المسؤول عن تجريف النخبة الحاكمة والمعارضة بهذا المستوى؟ من المسؤول عن استبعاد محمد البرادعى وعمرو موسى ونبيل العربى ومنصور حسن، وغيرهم الكثيرون من رجال الدولة الذين كانوا قادرين على إنجاز التحول الديمقراطى بشكل سلس قبل تسليم السلطة للإخوان.. أليس هو حسنى مبارك؟! الفارق بين بلد مثل تركيا ومصر أن الأولى عرفت تورجت أوزال ابن النظام العلمانى القديم الذى فتح الباب بإصلاحاته السياسية لوصول الإسلاميين للسلطة على قواعد الدولة العلمانية، وليس على حالة لا قواعد ولا نظام ولا دستور التى جرت فى مصر. الفارق بين الخبرتين أن تركيا لم يكن فيها حاكم بليد أهان شعبه واستخف به مثل مبارك، رئيس محدود الإمكانات منعدم الخيال قضى على النخبة السياسية وفتح الباب لنخبة التوريث أن تتحرك ونسى أنها فاقدة للشرعية الأخلاقية قبل السياسية. نعم مبارك هو الذى خلق ثقافة الفهلوة و«خليك ورا أكل عيشك»، ولم يكن لديه أى قيمة معنوية يدافع عنها، وفتح الباب أمام الإسلاميين ليعوضوا الفراغ المعنوى والسياسى الذى تركه، فلأول مرة منذ ظهور جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 يواجه النظام القائم الجماعة بالأمن فقط، فقبل ثورة يوليو كان للوفد مشروع سياسى مؤثر وبعد ثورة يوليو كان لعبدالناصر مشروع اجتماعى هائل، وحتى الرئيس السادات كان لديه أنصار آمنوا بخطه السياسى، أما مبارك فكان رئيساً بلا مشروع ولا حس ولا رؤية. هل هذا رئيس الذى يترك لأحمد عز إدارة انتخابات تشريعية يحصل فيها الحزب الحاكم على 97%، وتشهد مصر عمليات تزوير يندى لها الجبين، ويُستبعد كل رموز المعارضة من يسار وليبراليين وإسلاميين، وبعدها بشهر ينتفض الشعب المصرى فى 25 يناير؟! حالة مبارك غير متكررة فى دول العالم، فديكتاتوريات أمريكا اللاتينية العسكرية الأكثر قسوة - بما لا يقارن - من نظام مبارك عرفت أنظمة قوية فيها قيادات صف ثان وثالث دعمت بقاءها حتى النهاية وتفاوضت بشراسة مع النظام الديمقراطى الجديد، وأسست لأحزاب يمينية ارتدت رداء ليبرالياً ووصل بعضها للحكم، كما أن تجارب أوروبا الشرقية، أو إسبانيا فى عهد فرانكو، كانت فى وضع شبيه بمصر فى الستينيات، أى هناك نظام سلطوى ودولة قوية بها مؤسسات تعمل، وتعليم جيد، وصحة معقولة، وجهاز إدارى فيه حد أدنى من الكفاءة، ودولة مليئة بالأسماء اللامعة والكفاءات القادرة على أن تقود البلاد نحو نظام جديد. إن الـ«لا نظام» فى عهد مبارك يمثل استثناء مما عرفته مصر منذ تأسيس محمد على الدولة الوطنية الحديثة، صحيح أن الجميع لم يتركوا لنا إرثاً ديمقراطياً حقيقياً لا فى العهد الملكى رغم ليبراليته النسبية، ولا فى العهد الناصرى رغم ثوريته، إنما عرفنا عند الجميع مؤسسات دولة تعمل بكفاءة ولو نسبية، ونخبة صف ثان وثالث كان يمكنها أن تحكم مصر وما حولها. صحيح أن الـ«لا نظام» فى عهد مبارك كان أقل استبداداً من النظام التونسى أو الليبى أو السورى، وتجلت «خيبته» فى إضعاف الدولة وتخريبها فى التعليم والصحة والإعلام والأمن والمواصلات والزراعة والصناعة، بحيث من المستحيل أن يحدث إصلاح حقيقى دون أن تنتقل مصر من حالة الـ«لا نظام» التى واجهتها الثورة إلى النظام الذى فشلت حتى الآن فى بنائه. نعم نظام مبارك سقط بسبب ضعفه أولا وليس قوة الثورة لأن الأخيرة لم تتفق على قيادة ولا على مشروع ولم تعرف أين قوتها وأين ضعفها فتختار الطريق الصحيح للتحول الديمقراطى. لقد ارتكبت النخبة التى تربت فى عصر مبارك أخطاء جسيمة بسببها وصل الإخوان للحكم وترك لهم تحديد قواعد اللعبة: دستور وقانون انتخابات وغيرها، ولو كان فى مصر بدائل أخرى أتاحها مبارك وجيل آخر تربى فى عهد آخر غيره لكنا اليوم ربما شهدنا تحولاً ديمقراطياً ناجحاً يصل فيه الإسلاميون للسلطة على قواعد معدة سلفاً مثلما حدث فى تجارب النجاح لا الفشل. لن نسامح مبارك على ما فعله بمصر، ولا يجب أن نقول إن نجله هو الذى ورطه، إنما هو الذى ورط الجميع. نقلاً عن جريدة "المصري اليوم"

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حتى لا ننسى حتى لا ننسى



GMT 05:20 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

في الحنين إلى صدّام

GMT 05:17 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

تذبذب أسعار النفط مع استمرار حروب الشرق الأوسط

GMT 05:14 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

مصر في وسط العاصفة الإقليمية!

GMT 05:12 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

«داعش» في موزمبيق: ضمير غائب في أفريقيا؟!

GMT 05:08 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

دراما عظيمة... لكن من يتجرّأ؟

GMT 05:06 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

الهرم والمهووسون بالشهرة!

GMT 05:02 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

ما بعد الرد الإيراني

GMT 04:59 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

دبة النملة

نوال الزغبي تستعرض أناقتها بإطلالات ساحرة

بيروت ـ مصر اليوم

GMT 12:05 2019 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

«تلايا الليل» تضيء مسرح المجمع الثقافي

GMT 09:21 2019 الأربعاء ,27 شباط / فبراير

طريقة إعداد وتحضيركيك الأكلير بالشوكولاتة

GMT 12:50 2019 الجمعة ,22 شباط / فبراير

إيمري يرفض التفريط في هدف سان جيرمان

GMT 10:35 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

ديكورات مطابخ عصرية باستخدام الخشب مع اللون الأسود

GMT 08:34 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

اليابان تدرس استخدام "الثلج الناري" لحلّ أزمة الطاقة

GMT 16:21 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

"فيفا" يؤكّد أن إجراءات التحقيق مع "تشيلسي" مازالت مُستمرة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon