توقيت القاهرة المحلي 22:47:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحداثة والتاريخ في المونودراما عند صباح الأنباري

  مصر اليوم -

الحداثة والتاريخ في المونودراما عند صباح الأنباري

صالح الرزوق

  اقترب الأدباء العرب من التاريخ بأشكال عدة.. إما بتسجيل الوقائع وتدوينها ثم إعادة تفسيرها كما فعل رائد الرواية التاريخية جرجي زيدان في مستهل القرن الماضي، أو باستعارة الجو التاريخي بما فيه من مشاكل ودروس وعظات ومطابقتها مع الواقع الحالي. وكان ذلك على سبيل الترميز للهرب من وجه الرقابة الصارمة، وبالأخص في ظل أنظمة لا تعرف كيف تحكم إلا بقانون الطوارئ. ولئن لا يوجد خلاف على الطبيعة الرومنسية لروايات جرجي زيدان، وهذا نفهمه لو أخذنا في  الاعتبار دخول المنطقة في مرحلة تحديث حملت عناوين عريضة، مثل التنوير والنهضة والمثاقفة وما إلى ذلك، فإن الحال يختلف في ما عداه. إذا كانت الرموز التاريخية التي لعب بها زكريا تامر لعبته حداثة، ماذا نقول عن المدونات المملوكية التي استوعب بها جمال الغيطاني التاريخ النفسي لأزمة العرب المسلمين وهم في لحظات ضعفهم وخسارتهم؟.. لا شك أنه من الصعب أن نتجاوز الهم الحداثي لهذه النماذج ، غير أن الذهن المحرض لحركة الأحداث وتوسع دائرة الشخصيات، لم يكن ضمن اختصاص الحداثة. فقد كانت الرؤية تحكمها الذات المريضة والمندمجة مع الطبيعة الفقيرة للمجتمع والأرض، وفي نفس الوقت تستجيب لمبدأ السبب والنتيجة الذي هو جزء لا يتجزأ من الفلسفة الواقعية. وأعتقد أن السرد العربي كله، منذ خمسينات القرن الماضي، وحتى منتصف السبعينات، يدين لرؤية رومنسية كئيبة لها بعد اجتماع - سياسي. وبكلمة مختصرة: رؤية تدخل في قانون واقعية غارودي التي لا ضفاف لها. وهناك عدة أسباب تفسر ذلك: في مقدمتها دخول أفراد المجتمع في دورة حياة مختلفة، من أهم صفاتها التخلي عن الانتساب للعشيرة، وتقبل نظام الأسرة ، الركيزة الجديدة للطبقة المتوسطة التي بدأت بالازدهار، والنرجسية الناجمة عن ظرف المخاطر، والمسؤولة عن توسيع دور الفرد في المجتمع دون منحه مزيدا من الحريات. لقد تآزرت كل تلك الأسباب لتلغي صوت المنطق الكلاسيكي، ولتحل محله صوت العاطفة الفردية، بكل أوهامها عن الماضي الغني والخصب والمعطاء، والحاضر البائس والناقص، المجدب والمصاب باختناقات وأوهام وأمراض. لم تصل الحداثة لجوهر المخيلة الفنية عند العرب، لا في القرن العشرين ولا الألفية الثالثة. ولا تزال المدرسة الواقعية بإطارها الاجتماعي والمتأثر بما حققه السوفييت من إنجازات، هي أفضل ما تم تقديمه على أيديهم للحداثة. وأرى أن ما تبقى هو رومنسية جديدة في ثوب قشيب ومعاصر. ألم نعترف باندحار الكلاسيكية وعودتها باسم الكلاسيكية الجديدة. ألا تحصل الآن استعادة لتراث أدب الرعب القوطي في أوروبا باسم القوطية الجديدة؟!!. ثم انه لا توجد أية علاقة أصل وفرع بين تراث الحكاية عند العرب وفن الخيال اليوم. والرواية أو القصة لو استعارت بعض الأدوات من الحكاية الشعبية فهذا مجرد تعريب لما هو حصيلة إنتاج عدة شعوب من بينها العرب. وانطلاقا من هذه القناعات أرى أن قصص غادة السمان بصوتها المرتفع الذي نقول إنه تيار شعور، أبعد ما يكون عن المؤثرات الفنية الأصلية المتمثلة بفرجينيا وولف وتراث المرأة المعاصرة في أوروبا، وأقرب لنبوءات وانتقادات نيتشة أو نبي جبران. فهي لم تكن مجرد امرأة تدعو لتحديث العلاقات النفسية لحضارة تنتج أدواتها، ولكن ضمير امرأة تتحول من صيغة الجمع لصيغة المفرد، ومن الاهتمام بما يدور في الحياة إلى ما يجري خلف كواليسها. حتى أن صوت الواقع لديها لا يعدو أن يكون مجرد أصداء لمشكلته الأساسية وأثره في التكوين النفسي واللغة والتصورات. وإنه بشكل عام لا توجد حداثة عربية حقيقية، وإنما ردة فعل تجاه منطقها الأصيل الحامل لهموم مجتمعات تنتج الحداثة وترعاها وتحترق بنيرانها. وإنه من المبكر على العالم الثالث بكافة مستوياته أن ينقل رسالة من الذهن الصناعي لمكوناته، ولا سيما أنه لا يزال في نطاق عقلية قبل صناعية، وتمهد لاستهلاك أدوات العقل الحديث، وليس لتشكيله. وفي هذا المضمار أرى أن مسرح صباح الأنباري، وهو مسرحي عراقي من جيل الثمانينات، من الطليعة أو بمصطلح أدق النخبة، التي قاطعت الرؤية الاختزالية لتصنيف فنون القول والخيال. فلا هو يهمل الواقع ولا يوسعه على حساب الهموم الشخصية للأفراد المتأثرين بعمق الجرح الناجم عن سقوطنا المدوي وهزائمنا المتتالية، ولا يحاول استعارة أدواته ممن سبقه، ولكن يعتمد على التجريب والبراغماتية. وعليه يمكن أن يكون مثالا عن المسرحي الطليعي التجريبي الذي وظف التاريخ ومشتقاته للتعبير عن حالة من الشك والخيبة التي يجب أن ننظر بها لمأساتنا. وقد كانت استفادته من التاريخ بمستوى ما فعله المرحوم سعدالله ونوس.. لقد استفاد منه بشكل حامل لمحمول، أو رسالة ذات مغزى مستتر يجب أن نشترك معه لحل كافة رموزها وإشاراتها.. سواء القريبة أو البعيدة. وهذا يعني ضمنًا أنه ليس كاتبًا تاريخيًا على شاكلة معروف الأرناؤوط مؤلف الملحمة الكبرى التي أعاد فيها تركيب فجر الإسلام وبأسلوب رومنسي وبيان مشرق يضع كل حمولته في اللغة والبلاغة والعاطفة الجياشة تجاه فترة من الماضي. وهو كذلك ليس تاريخيا بالمفهوم الدقيق الذي شق له الطريق ميشال زيفاكو أو والتر سكوت، حيث أنه لا يعتمد على التشويق والحبكة القوية والمفاجآت والمغامرات وما يترتب على ذلك من تركيز على أهم نقطتين هما من دعامات الرومانس التاريخي: أقصد الحب المكبوت ونداء الوطن. هذه الثنائية المتكررة التي لا تخلو منها قصة مخاطر وترفيه. والحق يقال التاريخ عند صباح الأنباري مختلف تماما عن الرؤية الكلاسيكية له، والتي ترى فيه وفي أبطاله أصناما لا يجوز الاقتراب منها. بل العكس لقد كان يعمم الحالات الخاصة، ويتكلم عن مفردات هي جزء من الضمير العام كالجندي المجهول والشجرة القديمة والعامل والإنسان البسيط وما شابه. وقد غامر بتفكيك مثل هذه المفاهيم مثلما فعل بالأسلوب الذي اعتمد على العجائب والأساطير والمرويات الشفاهية الشعبية والمونولوج الدرامي soliloquy الذي أصبح يحمل اسم ( مونودراما). وفي ظني يمكن أن تتوفر عناصر المونودراما باللاشعور وعن غير عمد. فرواية (المساكين) لدوستويفسكي هي مونودراما بامتياز، ومثلها رواية مالون يموت لبيكيت، لأن البطل شخص واحد. والشخصيات الأخرى كلها ثانوية، ونتعرف عليها بعيونه. والمكان غرفة يسكنها هذا الشخص. وكذلك الزمان فترته محدودة تبدأ مع وعي هذه الشخصية ويقظتها، وتنتهي بنهاية الحدث الذي تتطور معه. يتبع..  

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحداثة والتاريخ في المونودراما عند صباح الأنباري الحداثة والتاريخ في المونودراما عند صباح الأنباري



GMT 15:22 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

سأغتال القصيد

GMT 11:37 2024 الثلاثاء ,23 كانون الثاني / يناير

البشر تصبح كالخرفان في مجتمعاتنا التي يحرّم فيها التفكر

GMT 12:46 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

ضفضة_مؤقتة

GMT 12:57 2023 الأربعاء ,12 تموز / يوليو

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

GMT 16:19 2023 الإثنين ,17 إبريل / نيسان

فلسطين بين رمضان والفصح المجيد

GMT 12:09 2023 الأحد ,22 كانون الثاني / يناير

مجانية الالقاب على جسر المجاملة أهدر قدسية الكلمة

GMT 11:30 2023 السبت ,21 كانون الثاني / يناير

صيحة البسوس وشهرة نساء بني تميم في العصر الجاهلية

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:33 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
  مصر اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن شِقو يكشف سراً عن كندة علوش

GMT 13:37 2023 الجمعة ,03 آذار/ مارس

افتتاح مطعم وجبات خفيفة أثري في إيطاليا

GMT 08:36 2021 الخميس ,14 تشرين الأول / أكتوبر

خبير ديكور يوضح الفرق بين الحجر الطبيعي والحجر الصناعي

GMT 16:31 2021 الأربعاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

"AZZI & OSTA" تطلق تشكيلتها الجديدة

GMT 23:47 2021 الأربعاء ,18 آب / أغسطس

"Dior Baby" تكشف عن مجموعتها لموسم خريف شتاء 2021-2022

GMT 23:17 2017 الأحد ,10 كانون الأول / ديسمبر

​المصري يبحث التعاقد مع حارس مرمى في كانون الثاني

GMT 03:00 2020 الثلاثاء ,15 كانون الأول / ديسمبر

فتاة توجه نصيحة للمصريين بعد إصابة 12 فردًا من أسرتها بكورونا

GMT 21:54 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

5 خطوات لاستخراج بدل فاقد لبطاقة التموين فى مصر إلكترونيا

GMT 22:12 2020 الجمعة ,18 أيلول / سبتمبر

الأسهم الباكستانية تغلق التعاملات على ارتفاع

GMT 22:31 2020 الثلاثاء ,28 تموز / يوليو

أسعار الأسمنت في مصر اليوم الثلاثاء 28 يوليو
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon